هذا الشاب
أرسل إليَّ يخبرني أنه يعاني من مشكلة كبيرة وأن حياته مهددة وأن موقفه يتوقف على رأيي ومشورتي.. قال أنه يحب فتاة حبًا شديدًا وأنه يكابد إليها أشواقًا عظيمة، وأنها بدورها تحبه جدًا، وأسهب في الشرح –وأجتهدت في الاختصار– بأنه لا يفكر بالكليةِ إلا فيها ولا يتولد لديه رغبة في الحديث إلا معها وأنها كذلك مثله وأوضح أنه يشتهيها ليل نهار..
يرسل خياله في تفاصيل جمالها في حركته وسكونه، في يقظته وحلمه، لا يوقفه شيء وأنه يعاني شوقًا لرؤيتها إذا غابت يماثل الألم ويقارع الحمى، وأما المشكلة فهي أنه لا يمتلك الإمكانيات التي تسمح له بزواجها ولا حتى بعد حين، وأن أهلها لن يقبلوا به ولو ساق إليهم أحبار الأرض ورهبانها فضلاً عن أئمة الإسلام أجمعين.
يبدو الأمر مكررًا وعاديًا، حاولت أن أشرح للمرسِل أني لا أستطيع مساعدته بأي حال وأن مشكلته ليست من اختصاصي، وأن المقال الأسبوعي الخاص بي في الجريدة لا يتناول مثل تلك القضايا، لكن ربما أسأت الفهم.
فبعد يومين أرسل إليَّ ثانية يخبرني أنه لم يطلب سوى رأيي ولم يبحث إلا عن الحكمة، وشرح لي أنه يواجه مشكلة أخلاقية عظمى تتمثل في قدرته على الاختلاء بمحبوبته بشكل كامل ونيل رضاء قلبه ووجدانه منها مشيرًا إلى ضعفها هي أيضًا تجاه أشواقها لكنه لا ينتوي ذلك –برغم القدرة– لتدينه المتأصل فيه وإن اعترف بالوهن الذي أصاب عزيمته إلا أنه لا يرضى أن ينقطع خيط المدد الرباني بارتكاب كبيرة..
وما برح يخبرني أنه شاب طيب القلب طيب السيرة لا يريد إلا من يحب.. لقد احترت كثيرًا بعد رسالته تلك وخاض قلمي معركة عصيبة ما أدمت ورقي بالكلمات المطلوبة ونازعتني نفسي إلى تجاهل الشاب.. لكن أرسلت له في النهاية ما اختذله عقلي في سطرين أو ثلاثة أعلمه فيها بأن الصبر مفتاح الفرج! وبأن شباب كثر على شاكلته وأن رحمة ربه خير.. ربما كان الأمر أكبر.
في رسالته الثالثة عبّر لي عن حبه الشديد لكتاباتي وكتبي وزاد عليه حبه النقيّ لذاتي وشخصي وأنه يرى فيَّ تجسيد لروح الخير وحب الحكمة.. وشكرني على اهتمامي وردودي ولم يخجل أن يخبرني أني لم أساعده.. وأوجز حالته ووضعه –وبعيدًا عن السالف ذكره– بأنه مكتئب لأقصى حد وحزين الروح نحيل الهيئة يعمل ما لا يحب مع من لا يحب ويأخذ من المال ما لا يقيم…
وأنه في أشهره الأخيرة فقد اهتمامه بالتلفاز وأخبار الوطن ثم تلى ذلك فقد الرغبة في الحديث والاستماع ثم إهمال العائلة وأحوالها، وبعدُ انعدام الرغبة في الخروج من المنزل –بخلاف العمل– وأنه أحب الانعزال عن الناس وآثر الوحدة، وبالرغم من كل ذلك أكَّد على متابعته لكل حروفي..
من هذا الشاب؟ وما تلك الحكاية؟ وكيف تبدو كلماته على ذلك القدر من الصدق والعمق؟ لقد حصل بعد رسالته تلك على كل تعاطفي واهتمامي وبث العجز في كل ضلوعي وثكناتي.. لقد طرح أصدق الأسئلة عن مصداقية الكاتب ومدى نفعه لقرائه ومريديه وحبسني في سجن نسيجه الشك وسجّانه عذاباته وأنّاته، وانتكس قلمي وفكري ولم أفق إلا وقد وجدتني أعتذر عن تقديم مقالي الأسبوعي، ولكم قضيت من الوقت أفكر في حال الشاب وما سرَّبته إليَّ كلماته من الحزن والألم والتي سرعان ما أتمها بخطاب رابع!
يقول فيه أنه قد ساءه جدًا غياب مقالي هذا الأسبوع، وأنه يشتاق لكلماتي كما يشتاق لحبيبته وأخبرني أنه على وشك ترك عمله بلا أدنى فكرة عن وجهة جديدة أو مصدر رزق آخر، ومنكرًا لبعض أحاسيس داخلته عن رغبة في الموت أو إنهاء الحياة وقد ذيّل خطابه المختصر بالسلام لأول مرة!
قضيت أيام بعد ذلك أعاني الأرق و “تلبس الحالة” -حالة الشاب طبعا- واستجمعت شتات فكري بعد مشورة زوجتي وأجمعت أمري على مقابلة الشاب ومساعدته بعد كل ما كان، وأرسلت إليه أطلب منه مقابلتي محددًا الزمان والمكان مشيرًا على رغبتي في بذل كل الجهد والمال والوقت لحل أزمته، لكن لم يأتي في الموعد ولم يرسل إليَّ ثانيةً.. وبالرغم من استعادتي لحياتي بعد حين إلا أنه تركني حائرًا، أتسائل عن مصيره؟!!