الطب النفسي.. قدمت الحضارة المصرية القديمة نموذجًا ملهمًا للعديد من حضارات العالم في كافة المجالات، فلا يزال العلم الحديث يبحث وراء كنوز تلك الحضارة محاولًا الوصول لحلول لبعض من ألغازها واكتشاف آفاق جديدة تفتح لنا الباب أمام مستقبل مختلف، وهنا سنلقي الضوء على الطب النفسي في مصر القديمة.
المرض النفسي
هو حالة نفسية يتعرض لها البعض حيث يتسبب إيذاء المشاعر في جعل الإنسان غير قادرًا على التحكم في انفعالاته، قراراته وتصرفاته بالشكل المطلوب، مما يستوجب التدخل لمعالجته لمحاولة إعادة الاتزان إليه.
ويعتقد البعض أن الأمراض النفسية هي وليدة العصور الحديثة، وما يعانيه الإنسان من زيادة الضغوط عليه في شتى المجالات، إلا أن هناك العديد من الأدلة التاريخية التي توضح مُعاناة البشر من الأمراض النفسية والعصبية منذ العصور القديمة.
النفس البشرية عند المصريين القدماء
اعتقد المصريون القدماء أن الذات تتكون من خمسة أجزاء مترابطة: رن، با، شوت، كا، وإب.
وكانت «رن» تمثل الاسم الذي يكتسبه الشخص لحظة ميلاده، حيث كان يُعتقد أن لها حياة خاصة بها وتعتبر جزءًا مهمًا جدًا من الشخص، لاسيما مع استخدامها في الطقوس الدينية أو كتابتها على القبر، وفقًا للاعتقاد بقدرة الرن على إبقاء الشخص على قيد الحياة بعد وفاته.
«با» هي الجزء من الذات الذي يشمل شخصية الشخص الظاهرة، والتي تجعله مميزًا حيث تعيش بعد موت الجسد وفنائه.
«شوت» هي ظل الشخص، الذي يحتوي على جزء مخفي من شخصيته، فيما كانت «كا» هي جوهر حياة الشخص أو طاقته، فالشخص الذي مات بعد مغادرته الجسد، يُمكن أن يعاد إحياؤه إلى جسد روحاني بعد الموت ، فكان يُعتقد أنه يمكن الحفاظ عليه من خلال الطعام والشراب.
وتشير «إب» إلى القلب، الذي كان يُعتقد أنه المركز العاطفي والمعرفي، حيث كان إله الموت «أنوبيس» يقوم بوزنه بعد موت الجسد، وبناءً عليه يُسمح لك بالعيش في الحياة الآخرة أو أن يتم تدميرك واستهلاكك من قبل الإله «أميت».
بردية إبيرس
بردية إبيرس من أوائل البرديات الطبية المصرية، التي كُتبت في تاريخ البَشرية، حيث سُميت على اسم الإنجليزي «جورج إبيرس» الذي اشتراها من الأقصر عام 1874.
وتحدثت البردية عن الاضطرابات العقلية للإنسان، لاسيما الاكتئاب والخرف وأعراضهما في إحدى فصولها، والذي سُمي بكتاب القلوب فيما شمل الوصف رقم (626، 694) بالبردية لبعض العقاقير لتحسين الحالة النفسية للمريض.
وتناولت البردية وصفًا لمرض الهيستيريا فيما تضمنت بردية «كاهون» وصفًا لكافة أشكال المرض، فاعتقد المصري القديم أن أعراض ذلك المرض ناتجة عن سوء وضع الرحم وتحركه من مكانه بحثًا عن الرطوبة باعتباره عضوًا جافًا في الجسم، فنجد الوصفة رقم 356، تتحدث عن مريضة مُصابة بعمى هستيرى، ليتم استخدام بعض التعاويذ السحرية لعلاجها.
رواية شجار اليائس
أبرزت الكثير من روايات الأدب المصري القديم مرض الاكتئاب بشكل واضح، والتي كان أبرزها رواية «شجار اليائس من الحياة مع روحه»، حيث ظهرت الروح وهي تروي لصاحبها اليائس من الحياة قصتين؛ لتهوّن عليه ما حل به، فقدمت البردية لنا أبطال القصة، لتوضح أن هناك من مرّوا في حياتهم بأصعب المواقف، مما جعلهم يدخلون فى حالة من الاكتئاب والعزلة.
طرق مختلفة لعلاج الاكتئاب
تحدث المؤرخ عيسى إسكندر في كتابه «تاريخ الطب عند الأمم القديمة والحديثة»، عن استخدام المصريين القدماء لدواء عشبيًا اعتمد على نبيذ الخل ولبن النساء وبعض الأعشاب، وذلك لمعالجة حالات الغم والغضب، فيما كان المعالج النفسي ينصح المريض بممارسة الرياضة؛ مثل المشي أو العدو أو الاستماع إلى الموسيقى والغناء، لإدخال السرور والسكينة على نفسه، وهو ما تؤكده تعدد مشاهد ممارسة الرياضة والعازفين والمغنين في المعابد والمقابر المصرية القديمة.
وكشف الدكتور أحمد عكاشة الرئيس السابق للجمعية العالمية للطب النفسي عن بناء الملك «أمنحوتب الثالث»، للمعبد الحضاني، الذي تم علاج المرضى فيه بواسطة عدة طرق منها: تفسير الأحلام بواسطة الكهنة، الاستماع إلى الموسيقى وتناول بعض الأعشاب، حيث يُعتقد استخدامهم لنبات الخشخاش (الأفيون) لبعض الحالات.
وتحدث الدكتور سمير أديب، في كتابه «موسوعة الحضارة المصرية القديمة»، عن حرص المصريين القدماء على عادة الزواج المبكر، من أجل تجنب التعرض للاكتئاب وتفادي التعرض للكبت الجنسي وما يصاحبه من اضطرابات، حيث أبرز ما أوصى به الحكيم «بتاح حتب» ابنه قائلًا: «إذا كنت عاقلا، فأسس لك دارًا وأحِبَّ زوجتك حبُا جما».
الأحلام لتفسير الأعراض النفسية
تحدث كتاب «الطب المصري القديم» للدكتور حسن كمال، عن استخدام المصريين القدماء لأسلوب تفسير وتحليل الأحلام لمعرفة الاضطرابات التي يعاني منها الإنسان.
وأبرز الكتاب وجود غرفة مخصصة في معبد فيلة، كان يُعتقد أن لها تأثيرًا في تحرير العقل الباطن من قيود الجسد ليحلق في سماء الأحلام، معبرًا عما يدور في بواطن نفس الشخص، فينام الرجل وإذا ما استيقظ سألوه عن حلمه من أجل القيام بعملية التفسير والتحليل ثم تشخيص حالة الشخص.
وضرب الكتاب أمثلة لما دونه المصريون القدماء حول الأحلام وتفسيرها «إذا رأى شخص نفسه في الرؤيا يأكل اللتونس، فهو أمر جيد، وإذا رأى نفسه يسدد سهمًا إلى علامة، فإن ذلك يعني تحقيق هدفه، أما إذا رأى نفسه يكسر إناء بقدمه، دل ذلك على حدوث مشاجرة أو أمر سيء، وإذا رأى أنه يوخز نفسه بإبرة، فيعني ذلك أنه يكذب».