سينما

عن يسري نصر الله – من سوق العبور إلى كأس العالم 90

خلال الفترة الماضية تلقى محبي السينما خبرًا منصفًا لأحد أبنائها؛ يسري نصر الله، فقد قامت منصة “نتفلكس” بترميم بعض أفلامه التي لم تنل حظها من العرض التلفزيوني – لأسباب سنتحدث عنها في هذا المقال – وعرضها مجددًا..

وللأمانة، فلم أكن يومًا من جمهور يسري نصر الله، لم يكن مخرجي المفضل من أبناء جيله الذي رحل أغلب أعلامه، أذكر أنني أعجبت ببعض أفلامه مثل “سرقات صيفية”، و”باب الشمس” و”جنينة الأسماك”.. لكنه في أغلب الأوقات كان إعجابًا هادئًا، لم ينتزع تصفيقًا، ولم يسبب اتساع حدقتي عيني انهبارًا.

وأذكر أنني لم أعجب نهائيًا بأفلامٍ مثل “الماء والخضرة والوجه الحسن” الذي يمكن تلخيصه في مشهد واحد بطله الممثل “علاء زينهم” وهو يتحدث عن الطعام ورهانه الدائم على ذوق من يطعمهم.. ولم أكن مغرمًا بـ”احكي يا شهرزاد” على الإطلاق، وبالتأكيد لم يحب أي مشاهد للسينما فيلم “بعد الموقعة”.. ولكن الفيلمين اللذين أثارا انتباهي وفضولي بعد الترميم كانا “المدينة” و”مرسيدس”.. فيمكننا الجدال على مستواهما الفني، ولكن لا يمكن إنكار اختلافهما وتفردهما، وكونهما علامة مميزة لمشروع “يسري نصر الله”.

 

يشترك الفيلمين في صفة مشتركة، وهي التشابه مع عالم “يوسف شاهين”، فالألوان متقاربة، وأداء الممثلين، وكذلك الإصرار على بعض الممثلين بعينهم ممكن يفضلهم “شاهين”، حتى وإن كان من بينهم “سيف عبد الرحمن” الذي لا أعلم حتى الآن سببًا لامتهانه التمثيل.. وأدعي كذلك أن دور المخرج الذي أداه الممثل “زكي فطين عبدالوهاب” في فيلم المدينة هو يوسف شاهين نفسه!

(ملحوظة: الحديث عن فيلمي “المدينة” و”مرسيدس” سيكون بإيجاز مُتَعَمَد، ودون حرقٍ للأحداث، وذلك تشجيعًا للقارئ على مشاهدة هذين العملين، واللذين أرشحهما بقوة)

مشاهدتي الأولى كانت لفيلم “مرسيدس” والذي لم أحب اسمه، خاصةً وأن علاقته بالأحداث ضعيفة ولم يُبذَل جهدًا حتى لإقحامه.. لكن الفيلم كان ممتعًا، خاصةً مع توثيق القاهرة من خلال مشاهد بسيطة، كمشاهد احتفالات جمهور الكرة بالمنتخب الوطني، ومشاهد سينما الدرجة الثالثة، وبداية انتشار المخدرات وخاصةً “حُقَن المَكس”، وكذلك تيار التطرف اليميني خلال فترة التسعينيات.

أجمل ما في “مرسيدس” هو بدايته المبشرة بالصراعات، فأنت أمام “وردة” الفتاة المسيحية التي أنجبت مرتين سفاحًا، والتي ترى العالم بمنظور مختلف عن الجميع، وترى ابنها “نوبي” وهو مختلف في كل شيء عمن حوله.. ترى كذلك ضابط يحاول تكليفه بمراقبة تاجرة مخدرات، وكذلك حبكة درامية بطلها “جمال”، وهو شاب مثلي الجنس، والأخٍ الأصغر لنوبي، والذي يحاول “نوبي” البحث عنه ليعطيه ميراثه.. كل هذه حبكات مبشرة.

بعض الحبكات انتهى قويًا كما بدأ، كتعاطي “وردة” مع الأحداث الجارية، وقصة حياة “نوبي” وعلاقته بفتاة ليل عذراء تشبه أمه.. ولكن البعض الآخر يسير في اتجاه ساذج، كحبكة تجارة المخدرات، والتي ترى فيها زعيمة العصابة وهي تخطف الأطفال بنفسها وتصطحبهم في سيارتها المرسيدس المميزة لتعطيهم المخدرات.. والبعض الثالث لم يجد طريقه ولم يضله، كشخصية “روحية” التي جسدتها عبلة كامل، وكذلك شخصية “جمال” وعلاقته المثلية التي قُدِمَت للمشاهد بشكل طبيعي لم يتكرر في أي فيلم مصري حتى الآن.

أما عن فيلم المدينة حكاية “علي عوضين” الشاب القاهري المطحون تحت شمس المدينة؛ بين أحلامه المتفرقة وقصة حب فاشلة ورغبة مُلحَة في التمثيل؛ كلها أحلام عادية ولكن في “المدينة” لا مجال للأحلام.. يرصد الفيلم حدثًا هامًا غيَّر من خريطة المدينة المزدحمة، وهو نقل سوق الخضار من روض الفرج لمدينة العبور.

ينتقل “علي” من مغامرة لأخرى، يظهر أحد الأشخاص “أسامة” والذي لعب دوره عمرو سعد، وقد أبدى ميوله المثلية على استحياء بخلاف شخصية “جمال” في “مرسيدس”.. يبدو أن “نصر الله” قد تعلم الدرس جيدًا وأراد للمدينة أن ينال حظه من العرض.

تشترك مغامرات “علي” داخل المدينة جميعًا في فكرة “المناورة”، فيسري نصر الله مارس لعبة ذكية مع المشاهد، ففي كل فصل من فصول الفيلم تظن أنك ستصطدم بكليشيه درامي تقليدي، ليفاجئك يسري نصر الله بالعكس..

تظهر المناورة الأولى في شخصية “عطا عوضين” والد علي، والذي يأخذ من ابنه الأموال مدعيًا أنه سيقوم بطباعة لافتات ضد الحكومة، تظن أنك ستقابل شخصية بطل شعبي أو مناضل ضد سياسات النظام، لتجد أن الأب قد استأجر بائعة هوى بأموال الكفاح المزعوم!

ترى كذلك البطل الذي يطمح في السفر، وتشاهده يلعب الملاكمة وسط الأوروبيين، فتظن أنك أمام حبكة “النمر الأسود” لتفاجأ أن البطل ليس كذلك، وأنه يلعب مباريات مزيفة، ويخسرها جميعًا لصالح مافيا الرهانات، حتى تمرده على هذه المافيا خرج عن الكليشيه، فخرج تمردًا فاشلًا يليق بالواقع وليس بقصص السينما.. حتى شخصية “سمسار البشر” الذي يحصل على أموال العاملين العرب في فرنسا، والذي ستظنه شريرًا على طول الخط، يتضح الجانب المشرق بداخله مع نهاية الأحداث، لا يوجد أحداث تنتهي كما تظنها ستنتهي.. وتلك ببساطة أحوال “المدينة”.

اقرأ أيضاً

عن مناورة الملكة about the queens gambit

عن فيلم حبيب مضاف بلا مضاف إليه

عبدالرحمن جاويش

كاتب وروائي شاب من مواليد محافظة الشرقية سنة 1995.. تخرج من كلية الهندسة (قسم الهندسة المدنية)..صدر له عدة رويات منها (النبض صفر،) كتب في بعض الجرائد والمواقع المحلية، وكتب أفكار العديد من الفيديوهات الساخرة على مواقع التواصل الاجتماعي.. كما دوَّن العديد من قصص الديستوبيا على صفحته الشخصية على موقع facebook وحازت على الكثير من الإشادات من القراء والكُتَّاب كذلك..
زر الذهاب إلى الأعلى