ڤودو – بابا لجبا (الجزء الثالث)
في يوم خريفي تكسو فيه الأرض أوراق الشجر البرتقالية المتساقطة، تهتز الأشجار وتُسقط المزيد من الأوراق، المصابيح الزيتية تضيئ شرفة منزلي الخشبي العتيق مثل باقي منازل منطقتنا، جلست لصناعه ثوب جديد لي وأستمتع بمشاهدة العربات التي تجرها الأحصنه تجوب الشوارع، فهي وسيلة المواصلات الوحيدة، ولكن لمن يملك ثمن شراء حصان من الأساس.
في كل ليلة أشكر ربي أن جدتي نالت حريتنا، ولكن مازال بيضاء البشرة يُعاملوننا أننا أقل منهم شأنًا، ولكن لم يكن باختياري أن أولد بتلك الموهبة، تلك الموهبة التي ستجعل الجميع يحترموني حتي وإن لم يكن بإرادتهم، فقد كنت ذات طاقة روحية كبيرة وأقدر علي صنع المعجزات، وعملت على تحرير الكثير من النساء، العبودية وسيادة الجنس الأبيض لن تدوم طويلًا!
أحببت رجلاً أبيض البشرة والقلب أيضًا، وأحبني ولكن كان زواجنا مستحيلاً، لأن القانون في (نيو أورليانز) كان يمنع زواج سادة المجتمع وصفوته ألا وهم بيض البشرة، من هؤلاء العبيد ذوي المستوى المتدني ألا وهم سود البشرة مثلي، استمرت علاقتنا لوقت طويل في السر.
من (إفريقيا) حيث جاء أجدادي كانوا يمارسون طقوس الڤودو وهي قائمة على التواصل مع أروح أجدادنا الأموات وطلب منهم خدمات في مقابل طقوس بسيطة، كنت أمارس طقوسي ولكن لاحظت إقبال الأخريات من بني جنسي (سود البشرة) ومع الوقت طقوسي اجتذبت بيض البشرة أيضًا، وكان مُرحب بهم في منزلي، أقمت مذبح في غرفة الضيوف وملئته بالشموع والصور المقدسة والبخور والزيوت، وكان يأتيني كل ليلة أشخاص كثيرين للصلاة والطلب، طلب مثل أن أُحضر وصفة ما لامرأة تريد أن تنجب، أو عروسة ڤودو لشخص سيئ الطباع يريدون أن يكون طوع أمرهم، وهكذا وسوف أترك لكم مساحة لتخيل ما يمكن أن يطلبه أي شخص من (ماري لاڤو) أعظم ساحرات (نيو أورليانز).
(بابا لجبا) لا تنطقوا اسمه بصوت مسموع حتى لا يأتي إليكم، كان يعاني في شبابه من العبودية وتسلط هؤلاء ممن يحسبون أنهم الأسمى بسبب بياض بشرتهم، وكان خادمًا متفانيًا لعقيدتنا (الڤودو)، ومع التحرر من العبودية كانت أمي وجيلها مازالوا صغارًا..
وكان وقتها (بابا لجبا) قديس بالنسبة للطائفة وكانت موهبته التواصل المباشر مع الأرواح المقدسة والأرواح العادية، وهي هبة عظيمة لا تتواجد عند الكثير من الكهنة، وبعد موته تحولت روحه لروح من الأرواح المقدسة، فهو كان المسؤول عن مفترق الطرق للروح بعد موتها، يعرف إذا كانت هذه الروح ذاهبة للنعيم أم للجحيم ويساعدها في الوصول لمحطتها الأبدية.
وكان أيضًا من تلك الأرواح المقدسة التي نستحضرها في طقوسنا المختصة في التواصل مع أرواح الموتى، بمعنى أنه إذا كان هناك أحد يريد أن يتواصل مع روح مفقود.. عزيز عليه، يتم إعداد الطقوس واستحضار (بابا لجبا) حتي يسهل التواصل مع الموتى ومعرفة أحوالهم، ولكن له شروط يجب تنفيذها، وإن كانت بشعة وخبيثة، فهناك مقابل لكل شيء.
كان لحضوره إحساس مهيب يبعث الخوف في النفوس، كانت هيأته مميزة فهو يفضل ألوان معينة مثل الأحمر والأصفر ويلبس على رأسه قبعة مثل التي يلبسها الساحر في عروضه ولكنها مزينة برموز دينية وجماجم صغيرة لأجنة لم يكتب لهم الحياة، ونقدم له قرابين من الخمور والتبغ لاستحضاره.
عندما أتممت ال ٢٥.. كنت في قمة المجد والتمكُن من كل التعاويذ وكل طُرق السحر، كنت أستخدم قدراتي التي ولدت بها مع تلك التي اكتسبتها من خلال الطقوس والتواصل مع الأرواح المقدسة، كنت (كاهنة) لطائفتنا ويأتي إليّ الكثير للتعلم والمباركة، ولذلك في سن ال ٢٥ قررت أنه يجب أن أبقى على شبابي حتى يتاح لي أن أتعلم المزيد ويزداد نفوذي في عالم الأحياء والأموات، وأعددت (طقوس الزواج) وبالطبع زواج كاهنة مميزة مثلي يجب أن يكون من روح مقدسه مميزة أيضًا، وقد اخترت (بابا لجبا) للزواج منه وتحقيق ثلاث طلبات لأجلي، وتمت الطقوس وطلبت من بابا لجبا، أول طلب أن أكون خالدة لا يتقدم بي العمر أبدًا، وثانيًا طلبت أن تزداد قوتي وقدراتي لتصبح لا تُهزم، ولم أكن أريد المزيد تخليت عن طلبي الثالث..
ولكن طلب مني بابا لجبا المُقابل، وهو ليس مُقابل جسدي مثل ما تفعل باقي الأرواح المقدسة، ولكن طلب مني أنه في يوم عقد الاتفاق سنويًا سيأتي ويطلب مني طلب غير قابل للرفض، والطلب الأول كان أن أقتل طفل رضيع لأن روحه تقتات على الأرواح النقية، أحسست بالعجز ولكن لكل شيء مقابل، ونفذت له طلبه وكلي حزن وأعطاني الخلود.
اكتشفت فيما بعد أن أول مرة هي دائمًا أصعب مرة، كانت طلباته تزداد غرابة وصعوبة، أول مرة كانت مجرد طفل رضيع ولكن فيما بعد كان يختار الأطفال وأعمارهم وأشكالهم، يختار حتى أمهاتهم، مما يزيد صعوبة المهمة، ولكن منذ أصبحت قدراتي غير محدودة أصبحت تتذلل لي الكثير من الصعاب.
ظل هذا الوضع لقرون ولكن كل عشر سنوات، كان يطلب طلب مختلف وهو جسد من دم جديد بعيد عن البشرة الداكنة، يختاره ويترك لي مهمة إحضاره ويتلبسه (بابا لجبا) حتى يحافظ علي قدسيته ويمتص من شباب ونقاء هذا الشخص حتى تكون طاقته الروحية في كامل قوتها، فكما يحتاج الجسد الفاني للطعام حتى يستمد منه طاقته، تحتاج الأرواح المقدسة لامتصاص طاقة جديدة كل عشر سنوات!
كان الأمر بسيط في نيو أورليانز، ولكنه بات صعبًا عندما انتقلت لهايتي في الكاريبي، لم تكن هذه البلد مقصدًا للسياح بشكل كبير، بسبب خوفهم من الڤودو وطقوسه ولهم حق في ذلك، فلا يفهم طقوس أي ديانة إلا معُتنقيها.
إنه شهر يوليو الآن، الشهر المقدس لآلهة الڤودو ويصادف أنها السنة الأولى بعد مُضي عشرة سنوات، بمعني أنه الآن يجب أن نجد قربان بشري من دم جديد لكل من الأرواح المُقدسة لدينا.. وكان بابا لجبا لديه هدفه هذه المرة وهي امرأة بيضاء، تكون صديقة لواحد من أبناء الطائفة (دامبلاه)، وأخبرني أنه يريدها هي.. وهي خصيصًا للطقوس الجديدة.
من إحدى قدراتي النافذة الشيطانية هي أنني أستطيع أن أتواجد في أحلامك.. أجعلك تنفذ ما آمرك به وتظن أنه أمر مقدس، ذهبت لدمبالاه في أحلامه بصورة بابا لجبا وأقنعته أن يدس أفكار السفر في خبايا أفكار (إيميلي)..
لم يكن إقناع تلك البيضاء وإبهارها بطقوسنا صعبًا، فهي وأمثالها متعطشين لكل ما هو جديد وغريب وكأننا جنس آخر، يأتون ليتعرفوا على طقوسنا ويصنعوا الأفلام الوثائقية، ولكنهم لا يعرفون أنهم جميعًا قرابين عاجلًا أم آجلًا!
لم يمض وقت طويل حتى أتت (إيميلي) وأصدقائها، وتمت الطقوس بالفعل ولم تفهم إيميلي أو أصدقائها سوى أنها طقوس زواج لإحدى البنات ولكن هي كانت طقوس لتهيئة إيميلي أن تكون الوعاء الجديد لبابا لجبا، ولكنهم كانوا أكثر جبنًا مما اعتقدنا، وقرروا السفر في اليوم التالي للطقوس من شدة خوفهم، ولكن أعطاهم دامبالاه، تميمة خشبية أعددتها خصيصًا لهم حتى تصحبهم لعنات الڤودو أينما ذهبوا..
كان مخطط لهم أن يبقوا ويقوموا بطقوس منفردة ويقدموا القربان لبابا لجبا، ولهذا كان يجب أن يقوموا بها ولكن في بلادهم، يجب أن تؤمن بوجود الروح فهي مفتاح جسدك لهم.
وعندما تملّك اليأس من نفوسهم، قرروا أن يقدموا القربان ولم يعلموا أن كل قطرة دم من تلك الماعز كانت إقرار منهم بوجوده وتصديقًا لقوته مما زاده قوة، وزاد في كوابيسهم حتى أتوا إلينا بمحض إرادتهم، وتمت الطقوس وأصبح لدى بابا لجبا جسدًا جديد يفعل به ما يحلو له، ليس فقط بها.. بل أيضًا بمن حولها، وبالنهاية يمتص روحها ويتركها جثة هامدة.
ذهب بجسد إيميلي إلى منزلها وهي لا تعي أنها الآن مجرد وعاء وأنها تملك وعي زائف لن يدوم طويلاً، بعد عدة أيام من تخبطها وإيحاء الجميع أنها بخير، استيقظت إيميلي وأتجهت مباشرة لغرفة أولادها وقامت بخنق الأول بالوسادة ثم الثاني، وبدأت ( بمعنى أصح بدأ) بابا لجبا في طقوس استخلاص تلك الأرواح النقية، عن طريق رسم طلاسم على أجسادهم ورسم طلاسم أخرى على الأرض بواسطة الطباشير الأحمر المصنوع خصيصًا بدماء قرابين وعظام مطحونة..
غرفة الأطفال، ظلام دامس، جسد الطفلين مُلقى على الأرض في وسط طلاسم الڤودو باللون الأحمر وجسدهم مُغطى بطلاسم أخرى مكتوبة بدمهم، تحاوط الدائرة شموع سوداء وهي مصدر الإضاءة الوحيد، ويبدأ بابا لجبا في التمتمة والرقص فوق أجسادهم، لتبدأ أجسادهم في الاهتزاز، ثم تتوقف وتسكن إلى الأبد.
دخل (روبرت) زوج إيميلي، كانت الصدمة كفيلة أن تفقده النطق والحركة لهول المشهد، أولاده وزوجته التي هي مجرد جسد فقط، كانت لحظات صمته كفيلة لأن ينقض عليه بابا لجبا حتى يشل حركته ويكسر عنقه ليذهب مع أولاده للأبد.
استيقظت إيميلي في الصباح تبحث عن أولادها وهي لا تعي أيًا مما حدث أمس، وأخذتها الصدمة ذاتها التي أخذت زوجها أفقدتها النطق وظلت تسمع ضحكات بابا لجبا في زوايا عقلها ويقول لها: “لقد قلت لكِ أنكِ ملك لي” وتستمر الضحكات في العلو وهي تضع أيديها على أذنها ظنًا منها أنها قادرة علي إسكاته، كانت لحظة كفيلة أن تضرب كل ذرة عقل لديها، وهي من اتصلت بالشرطة وأبلغت عن الحادث، قالت في التحقيقات أنها لا تعرف من الجاني ولكن هناك أصوات في رأسها تدفعها للجنون.
كانت جميع الأدلة تشير بوضوح أن إيميلي هي الجاني، بصماتها على كل شيء، وتم الحكم عليها بالإيداع في مصحة للأمراض النفسية والعصبية تابعة للسجن.
ظل بابا لجبا يطالب إيميلي بالانتحار مرارًا و تكرارًا، لم تتحمل تلك المسكينة واستغلت انشغال المتابعين من الممرضات وقامت بإحضار الشفرة التي أخذتها خلسة وشقت معصميها لتسبح في دمائها في دورة المياه قبل أن يكتشفها أحد بعد أن فارقت الحياة.
ومازالت ضحكات لجبا تملئ المكان، فهو لم يأخذ هذه المرة ما يريده فقط بل أكثر، فقد كانت إيميلي مميزة، ولكنها ضعيفة مثل مثيلاتها، سيتمتع الآن بعشرة سنوات من الطاقة المقدسة لخدمة معبر الأرواح.. أنه العظيم (بابا لجبا)..