ثقافة وفنون

جمال لا يزول.. الجزء الأول

جمال لا يزول.. الجزء الأول
Alexander Roslin: Damen med slöjan. Konstnärens maka Suzanne Roslin. Sign. Roslin. S. 1768 NM 4098

كنت أهفو إلى لقاءه، فما أحببت فنانًا في حياتي كما أحببته، بل إني من تقديري لفنه صرتُ لا أرى فنانًا سواه. كنت أنظر إلى لوحاته فيعتريني شعور لا أفهم كنهه. أشعر كأنها ليست مجرد لوحات جامدة، وإنما بدت لي وكأنها تنبض بالحياة. أسرحُ فيها متأملًا حتى أني في كثير من الأحيان كنت أنسى أنها مجرد صور فأمد يدي إليها حتى أنعم بجمال ملمسها كما أنعم بجمال منظرها، لكني كنت استفيق من غفلتي حزينًا لأدرك أني تماديت في تخيلاتي.

وهذه الجميلة التي زينت بجمالها كل لوحاته، فكانت أجمل عصفورة وأجمل وردة وأجمل غزالة. كانت تبرز في لوحاته بجسدها الغض الوردي آية من آيات الجمال، تنظر إليك بحياء من اللوحة فتنحصر كل تفاصيل اللوحة رغم الإتقان الشديد في جمال عينيها فلا تلحظ تلك التفاصيل إلا بشكل ثانوي. وكان هذا النموذج ذو الجمال السماوي يتكرر في كافة لوحاته.

كنت أحلم أن أقابل هذا الفنان واسأله عن نموذجه الفتَّان الذي أثار في داخلي حب الكتابة فصرت أنظر إلى لوحاته فينهمر على وجداني الشِعر حتى صرت من أشهر شُعراء بلدتنا.

فإن كانت لوحة لتلك المرأة استطاعت أن تلهمني بهذا القدر فكيف هي حقيقتها.

قررت أن أسافر لبلد هذا الفنان وأزوره لعلي أعلم سر هذا الجمال الذي تنبض به لوحاته.

قابلت فتاة كانت تعمل نادلة في أحد المطاعم فسألتها إن كانت تعرفه فقالت ومن لا يعرفه، فشهرته وصلت أقصى العالم فما بالك بأهل بلدته.

ثم قالت لي شيء خفق له فؤادي، قالت ولو رأيت ملهمته تكون من المحظوظين.

فقلت وهل تلك المرأة الموجودة في لوحاته حقيقية؟

قالت نعم هي زوجته.

فنزل الخبر عليا كصرخة الرعد، لكن ليس من طبعي الحسد فرجل مثله جدير بامرأة مثلها، لكني أردت أن اقابله وتمنيت أن أراها، فقط لاكتشف سر تلك الجاذبية وهذا الجمال الذي جعل اللوحة الصماء تنبض بالحياة.

فسألتها، وهل ترون هذه المرأة كثيرًا؟

قالت، لا فهي لا تحب الاختلاط بالناس.

قلت لها اعطيني عنوانه إذا سمحتي، فأعطتني العنوان.

ففكرت أن أرسل له رسالة أخبره بقدومي، فالفنانون مثله كثيرًا ما تكون لهم طباعًا مختلفة وربما لا يرحب بوجودي. ولم يمر يوم حتى جاءني رده وكان للغرابة في غاية الود، يبدو أنه قرأ بعض شعري وأعجبه، وقد دعاني في خطابه للغداء معه.

ذهبت واستقبلني خير استقبال وجلسنا طويلًا نتكلم في شتى المواضيع وكان حديثه عذبًا ويدل على ثقافة عالية.

وبيته آية في الجمال والأناقة حتى أني لو جئت إلى بيته بالصدفة لعرفت أنه بيت هذا الفنان من الذوق الذي ينبع من كل تفصيلة فيه.

جاءت فتاة في العاشرة ذات شعر ذهبي وقدمت لنا الشاي، قال إنها ابنته، وكانت تشبه المرأة في اللوحات فلا عجب أن تشبه الفتاة أمها.

بت أطوق لمقابلة تلك المرأة وأتعرف عليها، لكن رغم طول جلوسنا لم يظهر لها أثر.

جاءت الفتاة مرة أخرى ودعتنا للغداء فقلت في نفسي لابد أن زوجته ستشاركه الطعام.

مشيت خلفه متوجهًا للسفرة وقلبي يخفق، بالطبع لم يكن في نيتي خيانة الرجل بالتطلع لزوجته وقد أكرمني لكن كانت داخلي رغبة في اكتشاف السر وراء هذا الجمال الذي لم يستطع جمود اللوحات منعه من أن يعلن عن وجوده.

وصلت إلى السفرة فوجدت متحلقًا حولها ستة أطفال بأعمار متقاربة أكبرهم تلك الفتاة ذهبية الشعر لكني لم أجد المرأة.. فأصبت بخيبة الأمل.

ترى هل هي مسافرة أم مريضة أم ربما يغار الرجل على زوجته ويمنعها من رؤية الغرباء، لكن إن كان بتلك الغيرة فلن يرسمها في لوحاته، أم أنها ربما ماتت ولا يستطيع الرجل المسكين نسيانها ويحاول إحياءها في تلك اللوحات.

هل أسأله عنها، لو كان يغار لساءه سؤالي، ولو كانت ماتت لأعاد فتح جرحه ذكرها.

يبدو أن علي العودة من حيث أتيت ويكفيني التعرف على هذا الرجل الرائع.

انتهيت من الغداء ثم استأذنت بالانصراف، لكن الرجل رفض بشدة وأصر أن أجلس معه حتى العشاء فقليلًا ما يزوره أشخاص مثقفون مثلي، هكذا اعتبرني.

لم أكن أنوي أن أجيب طلبه رغم الحفاوة لكنه قال شيء جعلني أقبل بدون تردد، قال إنه بعد العشاء يجلس مع زوجته في الحديقة يشربان الشاي سويًا وإنه يدعوني للإنضمام لهما…..

يتبع..

سمير أبوزيد

باحث ومهندس في مجال النانو تكنولوجي بمدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا، وله عدة أبحاث علمية منشورة. ألف ثلاثة روايات " صندوق أرخيف" و " الرفاعي الأخير" و " عز الدين"، كما كتب للعديد من المجلات وله ما يزيد عن الثلاثمائة مقال.
زر الذهاب إلى الأعلى