ثقافة وفنون

جمال لا يزول.. الجزء الثاني

asgfasegfe
Alexander Roslin: Damen med slöjan. Konstnärens maka Suzanne Roslin. Sign. Roslin. S. 1768 NM 4098

بقلم: سمير أبوزيد

جلسنا نتكلم حتى حان وقت العشاء، جاءت الفتاة الشقراء وقالت له كلمة في أذنه ثم ذهبت. فقال لي أن زوجته قد حضرت بعض الساندويشات وأنها تنتظرنا في الجهة الأخرى من الحديقة، وسنأكلها مع الشاي.. سكت برهة ثم تابع قائلًا أنه يعتذر مني أننا سنأكل في الظلام حيث أنه يحب أن يتعشى على أضواء النجوم.

تعجبت للأمر، فمن اللذي يأكل في الظلام، ثم كيف سأتمكن من رؤية المرأة في الظلام، لكني كنت أعلم أن للفنانين أمثاله عادات غريبة فلم أُعلق.

ذهبت معه، وأجلسني على كرسي وفي البداية لم أتبين شيء في الظلمة حتى أني لم أرى الشخص الجالس على الكرسي المقابل لي. لكن بعد قليل تعودت عيني على الظلام وصرت أتبين أن هناك شخص جالس على كرسي أمامي، جلس الفنان بجانب هذا الشخص.

تكلم هذا الشخص قائلًا: تفضل الطعام، أتمنى أن يعجبك. كانت هي، كان صوتها لا يقل جمالًا عن صورتها، يقول الناس عن عصافير الكناري أنها رقيقة، لكنها لو قورنت بهذا الصوت لا يمكن اعتبراها كذلك. ومع الرقة كانت تحمل في صوتها عمقًا وحكمة.

أكلت ودخل ثلاثتنا في سمر تحت أضواء النجوم، ولم أستمتع بسمر في حياتي كهذا. كانت تملك رجاحة عقل و ثقافة قلما وجدت في رجل. يقال أن النساء الجميلات لا تمتلك قدرًا من الذكاء، لكن هذه المرأة استطاعت أن تقضي على تلك القاعدة. لم أستطع أن أرى وجهها في الظلمة لكن كفاني سماع صوتها لأتبين حقيقة الجمال العجيب الذي تنقله اللوحات المرسومة عنها.. فجمالها يفوق الشكل.

تأخر الوقت وأستأذنت في الرحيل، وأصر الفنان أن يوصلني بسيارته إلى الفندق الذي أسكن فيه.. ووافقت.

وبعد ركوبنا السيارة سألته مازحًا: لماذا تحب العشاء في الظلام، أعذرني على السؤال، لكنها أول مرة أقابل أحد يفعل هذا، فأحببت أن أستفسر؟

طفت على وجه الرجل سحابة حزن وقال بنبرة مهمومة: في الواقع يا صديقي أنا لا أحب العشاء في الظلام، لكن هذه تلبية لرغبة زوجتي عند مقابلة الغرباء.

قلت بدهشة: هل تستحي أن يراها الغرباء؟

رد: الأمر أعقد من ذلك، سأقول لك الحقيقة لكن رجاءً لا تخبر أحدًا فهي لا تحب ذلك.

قلت: بالطبع لا تقلق.

قال: أحببتها، وأحبتني، كنا لا نفترق أبدًا، حتى في العمل، فقد كان عملي الوحيد أن أرسمها، وأبرز جمالها الذي لم أرى له مثيل، ولا أظن أن له مثيل. ملئت عليّ حياتي بعد أن كنت وحيدًا، وملئت قلبي بالسعادة بعد أن كان خاليًا منها لسنوات. أنجبت لي ست أولاد، ولم يتأثر جمالها قيد أنملة. لكن يبدو أن الحياة لا تقبل أن تصفو لأحد مدة طويلة.

ففي يوم كنت أعرض لوحاتي في بلدة مجاورة، وعندما عدت وجدت المنزل محترق، فاحترق قلبي خوفًا عليها وعلى الأولاد، كان البواب يقف مع رجال الإطفاء فجريت عليه وسألته عن زوجتي وعن الأولاد، فقال الحمد لله، خرجوا سالمين، فسألته وأين هم، فوجدت وجهه قد تغير، فأعدت السؤال، فقال لي الرجل بنبرة حزينة أن بعد أن شب الحريق، خرجت زوجتي والأولاد من المنزل واتصل هو برجال الإطفاء، لكن فجأة وجد زوجتي تعود إلى المنزل جريًا، فظن أن هناك واحدًا من الأولاد بالداخل، لكن لما أحصاهم وجدهم جميعًا موجودين فتعجب. وفجأة خرجت السيدة من الشرفة، وبدأت في ألقاء لوحاتي حتى لا تحترق.

خافت أن تحترق اللوحات، قالت أنها تعلم أن اللوحات مهمة بالنسبة لي مثل أولادي، فقررت أن تنقذ اللوحات، أنقذت الرسومات ظنًا منها أنها أغلى عندي من الأصل، ظنًا منها أنها أغلى عندي منها. لكنها مع الأسف لفحت وجهها حرارة النيران. قال لي الرجل، أنها في المستشفى لأن وجهها قد تأثر بالنيران.

ذهبت إليها فلم ترد مقابلتي، خوفًا أن أراها في حالتها الجديدة، فدخلت رغمًا عنها واحتضنتها، لم تشوها النيران بالكامل، لكنها مع الأسف أخذت الكثير من جمالها، ومن وقتها وهي ترفض أن يراها أي غريب على حالتها الجديدة.

انهمرت الدموع من عين الفنان، وأجهش في البكاء، لقد فسد الأصل لكي تحيا الصور، سحقًا للصور.

ربت على كتفه وقلت له: لماذا تقول أن الأصل فسد، الجمال الذي رأيته من زوجتك يا سيدي لا يمكن إفساده أبدًا، فربما تأثر جمال وجهها، لكن جمالها الحقيقي لا يمكن أن يزول. جمال المرأة التي ضحت بنفسها لتنقذ لك شيء تحبه ليس في وجهها يا سيدي، وإنما جمالها في روحها، وجمال الروح لا يزول..

سمير أبوزيد

باحث ومهندس في مجال النانو تكنولوجي بمدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا، وله عدة أبحاث علمية منشورة. ألف ثلاثة روايات " صندوق أرخيف" و " الرفاعي الأخير" و " عز الدين"، كما كتب للعديد من المجلات وله ما يزيد عن الثلاثمائة مقال.
زر الذهاب إلى الأعلى