الحب على طريقة الطيور.. حين يقرر الكاتب من تحت خرائب حزنه، شغفه، أحلامه، مصائبه، فرحه، حبه الضائع، صنع رواية أو إهدائنا كتاب فهو يفعل شر مؤدب كبير خفي لا يدري عنه، وبالتأكيد هو لا يقصده، من المعقول أن حين يخلق الكاتب إبداع تكون بداخله رغبة في نجاح أو شهرة ربما مال كثير حب ووفاء لقلمه وأفكاره واحترام لحرمة الأدب، لكن ما يبعد عن ذهنه أن نجاح هذا العمل يسبب أرق مجنون.. اضطرابات.. حالة مرضية متعددة الأقطاب لقارئ ما.
كل الذين ظنوا أنهم صنعوا عمل عظيم، هم سفاحين بالنسبة إلي، أي شر كامن داخلهم يكنوه نحوي، ما ذنبي أنني أحب القراءة، أتذوق الحروف أغوص في بطون الشخصيات، أعيش معها، أحبها وأكرهها، أتعاطف أحيانا، أبحث عنهم في أيامي، لا أنساهم يأتون أحلامي، صدر الكُتب يتفتح ليستنشقني من أعلى الكلمات فأسقط عليه منثورة مسحوقة تماما أشبه الطحين الأبيض في بياضه ونعومته أذوب مع أنفاسه إلى الداخل ليلون بياضي كما يشاء بإبداعه، ثم يلفظني إلى الحياة مرة أخرى.
الحب على طريقة الطيور
لا يمر العمل المذهل على رأسي كما يمر على الجميع، يظل يأكل منها ثم يتكوم فوقها بثقلين ثقله الحقيقي وثقل ما أكله من رأسي، ليولد بدافع هذه العجينة رغبة رمادية، أكثر أعراضها حدة وتعقد.. رغبتي في صنع عمل كهذا، تظل تتفاقم لتصل إلى آخر قاماتي في المقاومة، فأشعر أمامها بالعجز والضياع، أشعر بالفشل، أنظر لكلماتي وأفكاري المدونة وأسبها، فأنا على هامش الإبداع مشنوقة.
أي غيرة هذه التي تجعلني أنحني احتراما للعمل وكره له، لأنني أُريد الآن صنع مثله ولكني عاجزة، غيرة لا تشبه أي غيرة أخرى، تجعلني خارج حدود المعاجم والمنطق والجغرافية، وقد تثرثر في أذني بفكرة شيطانية كنسبه، كما ينسب أي لقيط لعائلة حرمت الأطفال عليها، لست طماعة أريد هذا العمل فقط، لا غيره فإبداع أكبر منه لا يستطيع عقلي توقعه.
أتشكل ثانية بعد مقاومة وزمن لأسقط في عمل آخر لكاتب آخر يسفك دمي برصاص كلماته، يستيقظ البحث والدهشة ليكشف لي كم كنت صغيرة حين اجتاحتني الغيرة من الكتاب الذي سبق هذا.
ورد الربيع
هنا إبداع أكبر.. أجمل حروف بنكهات لا يحتملها عقلي، كأنها مطبوخة في الجنة، أتوقف عند كل فصل مندهشة واقفة أمامه تتصاعد المشاعر على الورقات لألتهمها في وقت قياسي، كاميرات تحملها أقلامهم لتنتقل عبر القارات والزمن عبر الممكن رؤيته من أحداث واللاممكن من مشاعر وأحاسيس معقدة، لا ترى فأرها فأعود متوعكة مريضة من جديد، بغيرة جديدة من هذا، ورغبة في سرقة عمله ونسبه لي، وحلم بمجد سيرفعني إلى السماء إن حصلت على هذا، وحقد على كاتب العمل الذي سبقه لأنه أخذ مساحة من قلبي وعقلي لا أستطيع نسيانها حتى وإن أصبحت منبهرة أكثر الآن، فأنا بحاجة ملحة لكل مساحاتي حتى يشغلها هذا العمل فقط.
ورد الربيع ينبت في قحط الشتاء.. هذا ما استطاع ذلك السفاح الجديد خارج حدود المعقول دسه في نفسي، كنت قد ظننت أن الربيع انتهى بانتهاء الكتاب السابق ولا شيء غير شتاء بارد إلى الأبد، عمل آخر يجعلني أشعر بما شعرت به من قبل، أريد هذا لي لا ما سبقه من أعمال، أريد مساحاتي لهذا لا غيره، أتوقف هنا عند كل سطر لا فصل، وأحيانا كل كلمة، الآن.. الآن سأكتب مثله، سوف أستخدم كلماته، أحداث روايته، سأخلق شخصياتي في مكان وزمان آخر، وسأبحث عن اسم جديد وأنسبه لي.
أتراجع..
لماذا لا أستخدم كلماته وأحداثه وشخصياته كما هي، أُغير الزمان والمكان فقط!!
أتراجع..
لكني لن أستطيع فعل هذا أيضا، سآخذها كما هي وسيساعدني الله بالتأكيد في مهمة الحصول على اسم جديد.
اللعنة… سفاح آخر وأعراض مرض مختلفة تتفشى لتسلبني ذاتي وتهبني ذات كل الشخصيات التي تقيم هنا.
جمال شخصيات هذا السفاح تزيد من قبح من حولي، تفضح بشاعتهم، الآن لدي تفسير لما وراء تصرفاتهم وشرورهم.. هنا وجدت أسرار النفوس.
أُريد أن أحب الآن كما أحبت البطلة الوسيم الأربعيني لألقي بنفسي في مستنقعات اللامسؤولية وعلى شواطئ الدلال.. أريد أن أصبح خائنة كما لو أنني خلقت من فخذ شيطان، لأتذوق نكهة الشر الجميل، فقد قيل أنه ينبت على حدود الطيبة كالفطر المسموم أحيانا..
أريد الحرية لأطير بلا حدود رافعة علم نزواتي فوق كل المساحات..
أريدهم كلهم الآن، فقد أصبحت مؤمنة بأن الحياة لذيذة، وأن ثوبنا الواحد البالي لا يستر إلا عورات لا بد من تعريتها لتكتمل فراغات الحياة، ولأتخلص من فوضى رغباتي التي كومها داخلي، فملئت شرايني حد التمزق.
الأفكار والنصوص المشهورة
فتاة مسعورة بعضات الحروف هكذا خرجت من هذا العمل، رغم إصابتي بالمرض الجديد، إلا أن جسدي ما يزال يهاجم أي مضادات لتخليصه من مرضه القديم، سرقة العمل بكل ما فيه حتى أسمه ونسبه لهوسي، فلا قدرة لي على حياكة اسم أغطي به رقعات جرمي.
سارقة بلهاء سوف أجد نفسي منعوتة بهذا، كهؤلاء الذين يسرقون الأفكار والنصوص المشهورة كاملة وينسبونها لأنفسهم، كالذين يرتكبون جرائم تزلزل أرض المجتمع أمام أعين الجميع دون تخطيط أو محاولة للنجاة من العقاب من شدة رغبتهم في فعلها.
هم ضحايا الإبداع متطرفين في تذوقه، أمعائهم لا تمتص هذا لا تحتمله، تجبرهم على التقيؤ فورا، نتاج الكُتاب السفاحين لا يؤكل لديهم ليغذي عقولهم كما يفعل مع الجميع، هذا يوضع فوق رؤوسهم ليمجد شغف مدسوس مبتور معاق لن ينعم الله عليه بالإبداع ليصبح كامل الصورة كما يتمنون، يتصاعد الشعور بالفشل والعجز كلما تصاعدت روعة الكتاب، حب من النوع الذي يقتل، دهشة تخلق حالة من الشعور بالصغر حد التلاشي أمامها، ورغبة أكبر في التخلص من هذا الشعور الممل، ما يحدث تحت تأثيره سحر لا رقية تشفي منه ولا آيات.
نعم .. أعلم أنني تأملت الموضوع بحياد كاذب.
الإبداع بطريقة الطيور
فمن الشر المؤدب تشرق شمسي السوداء لأبقى أسيرة لكل عمل مبدع حليفة له ضدي، أفني وقتي وحياتي بين الانبهار والرغبة تختلف في كل مرة مشاعري وطقوسي وحاجتي ونضوجي، أبقى منحنية أمامه ولا أفيق إلا بانحناء آخر أمام عمل جديد، بمصارعة جديدة مع عنصر لن آراه في المرة السابقة ولا حل له، كالوقت الذي لا يكفي لشفاء فضولي نحو العمل، التعب الجسدي التي أسقط فيه مرهقة مما اقرأ، حاجتي إلى عدم انتهائه وصبغه بالأبدية، دائرة مغلقة لا تفتح إلا لسكبي في دائرة أكثر اتساع وانغلاق.
بكل اللهفة وكل الغصات التي تحدث، نحن ضحايا أحبت الأدب أحبت الكتب والإبداع بطريقة الطيور، كل يوم هناك مكان يصبح وطنهم وانتمائهم لا يستوعب عقلهم المحدود أن ربما غدا يتغير هذا، وبنفس الحب والشغف والانتماء ربما أكثر لمكان جديد.
إلى أي زمن سوف أحتمل التقلب على سطوحهم الحارة لا أعلم، أشعر أن هذا احتضار طويل الأجل، أموت بعده منتحرة من قمة نص مبهج لن يستطيع بؤسي استيعابه، أو سارقة أتجول المحاكم أبحث عن شهادات كاذبة على مصداقية ما أدعيه، أو أخيرا سفاحة بقلم لن يرحم مثلهم، وربما معتزلة المسرحية إلى الأبد هاربة ناجية بما تبقى لي خارج حدود هذا الشر المؤدب الودود، منسلخة من الماء المعمدة به باعتناق دين جديد، راجية الله أن لا يكون مدخله وشما الأدب إحدى رموزه.
أكثر الناس شرا الأدباء.. وأكثر الشرور جمالا الأدب.
انتهت..
اقرأ أيضا:
الهيئة العامة للكتاب تطرح “مجال الثقافة والفكر الدينى” مجاناً
وزارة الثقافة تعرض “موكب النصر” للمرة الأولى