كان رجلًا عجوزًا أكثر منه إلهًا إغريقيًا عظيمًا، كان يجلس على جزيرته الصغيرة ليؤدي مهمته البسيطة التي ولد لها.. عليه رعاية قطعان البحر إلى الأبد، ربما يعلم كل شيء: يعلم الماضي، والحاضر، والمستقبل.
ولكنه يرى معرفته أثمن من البوح بها، أثقل من الأرض التي يحملها أطلس على كتفيه، وأقوى من رمح زيوس الذي يسخر البرق بأمره، وأجمل من وجه أفروديت، وأعقل من حكمة منيرفا.
لذا آثر الصمت، وآثر الحفاظ على معرفته لنفسه.
هكذا كان بروتيوس أحد آلهة البحار الإغريقية وهكذا كان توماس وايك في فيلم الرعب الصادم والمذهل “المنارة” أو The Lighthouse.
فيلم رعب نفسي من الدرجة الأولى، قد يبدو للبعض أنه عبارة عن تنفيذ مرئي، ومسموع لقصة إدجار آلان بو الشهيرة بنفس الاسم، والذي مات قبل أن يتمكن من كتابة نهايتها.
ولكن وعلى عكس توقع الجميع، خرج الفيلم ليصدم المشاهدين بعمل مذهل، وصادم، ومرعب لأكثر ما تحتمله جوانب هذه الكلمة من معان، بل إن الفيلم بممثلين اثنين فقط (ويليام دافو وروبرت باتنسون) استطاع تقديم تجربة أقل ما توصف بها أنها تعدت حدود الكوابيس.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد قرر المخرج العظيم روبر إيجرز أن يقدم تحفة خالصة على غرار تحفة السابقة “الساحرة” أو The witch، فينتج عملًا رمزيًا أدبيًا يروي لنا قصة أسطورية بين اثنين من الآلهة، وتحمل في داخلها المشاعر البشرية، كذلك ليتركنا في النهاية أمام صراع نفسي لا ينتهي حول ما رأيناه حقًا في الفيلم.
فبينما كان توماس وايك يمثل الإله بروتيوس بمعرفته اللانهائية، وقصصه حول رحلاته البحرية، وحكاياته عن البحار والمحيطات وأساطيرها التي لا تنتهي، ومنارته التي يتأملها كل ليلة عاريًا.
كان إفرايم وينسلو يمثل بروميثيوس، العملاق الذي خلق البشرية من الطين، بطل المخلوقات الذي سرق شعلة المعرفة من زيوس ومنحها إليهم.
كان إفرايم وعلى غرار زيوس طواقًا بل متعطشًا لضوء المنارة، المعرفة المنشودة على قمة ذلك البرج الإسمنتي، والذي قرر توماس وايك الاحتفاظ بها لنفسه فقط؛ فالمعرفة ملك له وحده.
وحينما فوت الرجلان مركب الانقاذ، وتسببا في بقائهما على تلك الصخرة لأسابيع أخرى، بدأ صراعهما المذهل للحفاظ على ما تبقى من عقليهما، ولكن تبدأ الأسرار بالظهور حينما يصّر توماس وايك على جعل أفرايم سكيرًا فيحصل منه على المعرفة المختبئة ورائه ويقوده إلى الجنون شيئًا فشيئًا، ويكتشف جريمة أفرايم الخفية.
بينما يكتشف أفرايم وينسلو حقيقة حكايات توماس وكيف كان يكذب بشأن رحلاته في المحيط وكيف كذب حول مصير مساعده السابق.
وهنا نقف أمام حقيقة هوية كل منهما، فكلاهما كان كاذبًا بشأن نفسه، كلاهما كان منتحلًا لهوية شخص آخر، كلاهما كانا يعانيان من ألم العطش للمعرفة، ولضوء المنارة.
ثم ينتهي الفيلم بعد رحلة عصيبة من الصراعات النفسية الصادمة، ويقف أفرايم وينسلو أمام ضوء المنارة المذهل بعدما ارتكب جريمته الأخيرة، ليغلفه الضوء، ويضحك بسعادة هيستيرية وبألم دفين، بينما يتأمل إشعاع ضوء المعرفة وهو يلتهمه ثم يسقط في النهاية.
وكما عاقب زيوس بروميثيوس، عاقب الإله أفرايم، وكما التهمت النسور كبد بروميثيوس، التهمت النوارس كبد أفرايم.
لينتهي الفيلم بعد تجربة نفسية، تستحق كل ثانية مرت منها.