تاريخ

هل كان سليمان الحلبي إرهابيًا؟

تعرف أكثر عن قصة اغتيال كليبر

هيثم السايس

في يونيو من عام 1800م شهدت حديقة قصر ساري عسكر الفرنسيين (قائد الحملة الفرنسية) في مصر عملية اغتيال القائد نفسه، وهو الجنرال كليبر الذي تولى الحملة في ظروف قاسية، وذلك بسبب استدعاء نابليون سرًا إلى فرنسا، وتداعي الحملات العثمانية والإنجليزية على مصر لتحريرها من الفرنسيين المحتلين، هذا إلى جانب الظروف السيئة التي يعيشها الفرنسيون في مصر.

أما عن عملية الاغتيال؛ فقد تمت في شهر يونيو في عام 1800م بعد ثورة رهيبة قادها السيد عمر مكرم في القاهرة قبل ثلاث شهور من عملية الاغتيال، وبالرغم من سيطرة القوات الفرنسية على الأمر، إلا أنه بدا للجميع أن مركز الحملة في مصر حرج ولابد من مخرج له.

ولقد تمت عملية الاغتيال على يد طالب سوري يدرس في الأزهر الشريف يدعى سليمان الحلبي، لقد انقسمت كتب التاريخ حول هذه الفعلة وتسائلت بعض الأسئلة الخبيثة أحيانًا والساذجة في بعض الأحيان الأخرى، هل ما فعله سليمان الحلبي كان مقاومة؟ أم أن للأمر دوافع سياسية حول الاغتيال؟

في الحقيقة لا يوجد تفصيل لعملية الاغتيال إلا في كتاب عبد الرحمن الجبرتي “عجائب الآثار في التراجم والأخبار” وهو معروف بنزاهته الشديدة ونقله الأمين عن بعض الوثائق الفرنسية ذاتها عن الجريمة.

هنا يمكن فهم دوافع الاغتيال عبر بعض الأمور التي نوّضحها من خلال السطور القادمة..

شاب تدفعه دوافع الجهاد.. أم إرهابيًا مدفوعًا من العثمانيين؟

لن نجيب على هذا السؤال، ولن نتهم سليمان الحلبي، إنه شاب أزهري غير مصري، ولكنه مسلم تدفعه دوافع الجهاد ضد محتل يراه كافرًا ويراه مغتصبًا لأراضي إسلامية، وهذا ما قاله الفرنسيون أنفسهم في ثنايا القضية..

لم يكن سليمان وحده في هذه القضية، فقد تم اتهام 3 من زملائه في هذه القضية، وهم عبد الله الغزي وعبد القادر الغزي وأحمد الوالي، وجميعهم من مدينة غزة، وكانوا يدرسون في الأزهر الشريف زمن احتلال الفرنسيين لمصر.

صحيح أن الثلاثة المتهمين لم يشتركوا في الاغتيال بأنفسهم، ولكنهم كانوا يعلمون بالخطة وشاركوا فيها، وتم اتهامهم بتسهيل عملية الاغتيال ليقوم بها سليمان في الموعد المحدد، وتم إدانتهم مع سليمان.

هناك رابع وهو مصطفى أفندي، وهذا الرجل ورائه السر كله في عملية الاغتيال، لقد تحقق الفرنسيون من صلته بالقضية وتم القبض عليه..

يصف الجبرتي التحقيقات معه بالتفصيل من خلال النصوص التي كتبها من الوثائق الفرنسية ذاتها، ويتبين من خلال التحقيقات الآتي:

  • إدانة مصطفى أفندي في القضية بالتسهيل والمساعدة وذلك في أول الأمر.
  • يتم التحقيق معه بالطريقة الفرنسية ويتبين بأنه لم يكن يعرف نوايا سليمان.
  • يتم سؤاله عن دوافع سليمان الحلبي لاغتيال كليبر وهل هي دوافع دينية أم سياسية؟ ليرد مصطفى أفندي أن سليمان قاريء جيد للقرآن الكريم الذي يصف غير المسلمين بالكفار ويجب جهادهم إذا اقتضى الأمر، وأنه نفذ كلام القرآن ليس إلا، ليؤكد عليه المحقق الفرنسي عن رأيه هو –أي مصطفى أفندي– في الفرنسيين، ليرد قائلًا: نعم أراكم كفارًا.
  • يتم الإفراج عن مصطفى أفندي في النهاية.

الشاهد والخلاصة من هذه التحقيقات الفرنسية المضنية؛ أن سليمان الحلبي كانت دوافعه دينية جهادية ضد المحتل الفرنسي، وقد رأى بعينه المذابح التي قام بها الفرنسيون في شوارع القاهرة قبل ثلاثة أشهر بما يعرف في التاريخ بثورة القاهرة الثانية..

كليبر

تم إتهام سليمان الحلبي في النهاية بتهمة القتل العمد وتم إعدامه على الخازوق، بينما تم إدانة عبد الله وعبد القادر وأحمد الوالي زملائه وتم إعدامهم شنقًا بتهمة التحريض والتسهيل والمساعدة، بينما تم الإفراج عن مصطفى أفندي لعدم كفاية الأدلة بإدانته.

انتهت القضية إذن؛ ولكن يبقى السؤال هل بالفعل كان سليمان الحلبي إرهابيًا كما يحلو للبعض إتهامه، أم أنه كان يرى أن كليبر محتل مغتصب يجب التخلص منه في كل الأحوال؟ إن الإجابة تكمن في التحقيقات ذاتها.

لقد حول الفرنسيون منطقة الجريمة كعادتهم في التحقيقات، وأثبتوا أن سليمان جاء إلى مصر بدافع الجهاد، وتم الاستعانة به (في نظرهم) من جانب الأتراك العثمانيين لكي يقوم بجريمته، ولقد اتهمته السلطة الفرنسية أنه مرسل من جانب ضابط كبير في حلب من القوات العثمانية مستغلًا أنه يعرف القاهرة جيدًا.

تستمر التحقيقات بقولها أن الضابط قام بمحاولة ابتزاز أبو سليمان وهو تاجر حلبي يدعى محمد أمين بأن تتوقف تجارته وأثقله بالديون والضرائب لكي ينفذ ابنه هذه المهمة، وقد قبل سليمان بها وسافر إلى القاهرة واجتذب أربعة من زملائه لتنفيذ الخطة وهم عبد الله وعبد القادر وأحمد الوالي من غزة، بالإضافة إلى معلم يدعى مصطفى أفندي من الأتراك ويعرف سليمان جيدًا.

أما سلاح الجريمة، فقد دخل به إلى مصر متخفيًا، حيث قام بشرائه في غزة قبل دخول مصر مباشرة، ولم يقم بشرائه من القاهرة حتى لا يتم الشك فيه من جانب الفرنسيين.

يبقى لنا أن نقول أن هذه التحقيقات تم انتزاعها تحت التعذيب الشديد، حيث كان سليمان بعد القبض عليه بساعة واحدة من الجريمة، مصرًا على عدم النطق بأي شيء، ولكن انتزع  المحقق الفرنسي هذه الاعترافات بشكل حاسم في الأيام التالية بعد تعذيبه.

هذا كان جانبًا من التحقيقات الفرنسية، إلا أن هناك علامات استفهام حول القضية خاصة بما يتعلق بمصطفى أفندي، الذي أقر واعترف أن عقيدة سليمان تحتّم عليه القضاء على الكفار الفرنسيين واحدًا واحدًا، فهل كان يقصد أنه مدفوع من العثمانيين لهذا الغرض؟

هذا لن يجيب التاريخ عليه للأسف الشديد، فهو لا يحكم على النوايا، ولكن بحكم المنطق فإن هناك دافعًا دينيًا لا شك فيه عند سليمان، بغض النظر عن تحريض العثمانيين الذي لا يوجد دليل عليه سوى اعترافات تحت التعذيب وتحقيقات الفرنسيين الذين يريدون “منطقة الأحداث بعيدًا عن الهوى والعاطفة الدينية”.

هذا ما يذكره الجبرتي نصًا: “ألفوا في شأن ذلك أوراقًا ذكروا فيها صورة الواقعة وكيفيتها وطبعوا منها نسخًا كثيرة باللغات الثلاث: الفرنساوية والتركية والعربية… لتضمينها خبر الواقعة وكيفية إصدار الحكم ولما فيها من الاعتبار وضبط الأحكام من هؤلاء الطائفة –يقصد السلطة الفرنسية- الذين يحكمون العقل ولا يدينون بدين.

وهنا نرى للحقيقة عدة أوجه.. سليمان كان مدفوعًا لقتل كليبر من عاطفته الدينية أولًا.. ثم ربما بتحريض من آخرين ثانيًا.. لكن هل ترى أن دافع سليمان الثاني كان أكبر؟

هذا ما لا نستطيع الإجابة عليه بواقع التحقيق.. لكن بواقع المنطق والعقل.. أي مسلم في هذا الموقف سيفكر أولًا بدافع الثواب والجزاء والقرب من الله، وأن هذا جهادًا لا شك فيه حتى لو كان مدفوعًا من سلطة كانت تمثل في نظره سلطة الخلافة ضد المحتلين لأراضي الخلافة..

برأيك هل ترى سليمان محقًا فيما فعل؟

زر الذهاب إلى الأعلى