سينما

عن فلسفة النبوت

عن فلسفة النبوت
هي تلك الشعرة التي لا يدركها الكثيرون ممن يكتبون عن حقبة “الفتوة”؛ الشعرة بين الفتوة الذي يدافع عن حقوق المستضعفين، وبين البلطجي الذي يجمع منهم “إتاوة”.. وقد تكون هذه الشعرة عائدة لفروق شخصية بين كل فتوة وآخر، فهناك من يحب الحكم بالعدل ويصدر نبوته لكل معتدٍ على الحارة، وهناك من يفضل الحكم بالنبوت، وغلق الحارة على أهلها وكتم أفواههم بنفس النبوت.

 

ولمن لا يعرف سلطات الفتوة، فهي سلطة شرعية ابتدعها الناس في كل حارة من حارات مصر القديمة؛ حيث يمثل الفتوة الحاكم العرفي للحارة الواحدة، وواجب عليه حماية أهل الحارة من أي عدوان خارجي، والفصل في مظالمهم والاستجابة لها.

 

يظهر الفتوات بشكل قوي في الفلكلور المصري؛ وأشهر ظهور كان في سيرة علي الزيبق أو في حكايا التراث المختلفة تحت مسمى “الشطار” أو “العياق”.. وكانوا يمتازون بخفة الحركة والحيلة والذكاء، عكس الفتوات الذين ظهروا في تاريخ مصر المملوكية بعد تراجع نفوذ السلطان العثماني على مصر، فقد تمكن المماليك من نشر الذعر بين عوام المصريين، مما أدى لظهور فتوة يغلق بابه على حارته ليحميها من السلب والنهب.

 

 

وقد تعاظم دور الفتوات تاريخيًا ليظهر مع الوقت تدخلهم في المواقف الحرجة في تاريخ مصر.. وقد ثبت حضور الفتوات تاريخيًا في كلا العدوانين الشهيرين على مصر؛ الحملة الفرنسية والاحتلال الإنجليزي، فقد تصدر الفتوات المشهد إما بالتحالف مع العدو أو بالمقاومة الشعبية.. كلها فروق شخصية لا يحكمها سوى عرف متوارث.

 

وإذا قمت بتحليل شخصية الفتوة ستجده هو أقرب الشخصيات للوعي المصري، وأكثرها توافقًا مع رغبته في وجود الحاكم الوحيد الذي يسعى لتطبيق العدالة وفقًا لمفاهيم المجتمع، وكذلك يفرض نفسه على الناس حسب قوته.

 

ولكن كأي سلطة في العالم، بدأت تتخذ منحنى أكثر قوة وأشد عنفًا مع العوام، وبدأت فلسفة النبوت تتحور تمامًا من الدفاع عن المظلوم لزيادة الظلم ظلمًا فوق رأسه، وتحول الفتوة من حامٍ لناهب، وتشابه اللصوص في عين المصري البسيط آنذاك.. وهنا تغيب “الشعرة”.

 

الشعرة بين الفتوة والبلطجي واهية؛ تكاد لا تُرَى، فكلاهما يستعمل السلاح، وكلاهما يسود بإثارة الخوف وإثبات قوته في عيون الناس، وكلاهما لا يعمل عملًا محددًا، فالفتوة يجمع قوته من الإتاوة التي يختلف مقدارها حسب طمعه الشخصي وأهوائه، والبلطجي يحصل على أمواله غصبًا من البسطاء.

 

ومن الحوادث التاريخية الشهيرة عن فتوات الحسينية، أنهم واجهوا الإنجليز بالحيلة وبالقوة، وقد وثق نجيب محفوظ حوادثهم في رواية “بين القصرين”.. ورصد كذلك تراجع دور الفتوة ليحل محله البلطجي، ولم تخرج كل شخصيات الفتوة في الأدب العربي بهذه العدالة والعظمة، وإنما خرج بعضها إما في “الحرافيش” أو في “أولاد حارتنا” بصورة قد تنفر القارئ من هذا الحكم العرفي.

 

وعلى مستوى التواجد السينمائي، فقد عكفت الكاتبة والناقدة السينمائية “ناهد صلاح” على توثيق مراحل تطور الفتوة عبر عصور السينما، فقد بدأ الأمر مع فيلم “فتوات الحسينية” وتبعه فيلم “الفتوة”.. ويعتبر هذا الفيلم هو المحرك الرئيسي للأديب العالمي نجيب محفوظ الذي انطلق من ورائه بحثًا وسعيًا عن تاريخ الفتوات، ليخرج علينا بملحمة “الحرافيش” والتي تعد أبرز مخطوطة عربية تناولت سيرة الفتوات في الحارة المصرية.

 

وتروي الحرافيش حكاية عشرة أجيال متتابعة من الفتوات في أحياء القاهرة القديمة، ويستعرض صراعات الفتوات على من يحكم، ومدرسة كل منهم في حكم الحارة، فمنهم من يحمي بالنبوت ومنهم من يسود به.. من خلال عائلة “الناجي” التي ورثت منصب “الفتوة” منذ أجيال بعيدة.

 

وظهر الفتوة عاشور الناجي في “الحرافيش” بدور كبير الحارة الذي يفصل بين الناس ويبعث الأمن في النفوس، لدرجة أن بعض فتوات الحرافيش قد ساووا بين الأثرياء والفقراء.. وقد حرص محفوظ على جعله أشبه بروبن هود الذي يراعي الفقراء ويساويهم بالتجار وذوي الوجاهة.

 

وقد تناولت جميع هذه الأعمال تيمة درامية واحدة؛ حيث يبدأ الفيلم بانتشار الظلم والقهر بين العباد، حتى يأتي من يحاول تغيير هذا الوضع، فيفشل تارة وينجح تارةً أخرى.. وإما ينتصر في نهاية سعيدة، أو يهزم في نهاية مأساوية.. أو يتحول بدوره لفاسد جديد.. وقد أدرك أن فلسفة النبوت العادل لن تجدي مع هؤلاء العوام.. لتدور عجلة النهب.

 

في النهاية لا أخفي عدم تفائلي بمسلسل “الفتوة” المعروض في الفترة الحالية من بطولة “ياسر جلال”، فقد نوه صناعه أنه سيتناول الفتوة من وجهة نظر اجتماعية فقط في منطقة “الجمالية”، وأخشى أن يكون هذا المنظور مقصرًا في حق منصب أثر وغير الكثير في خريطة مصر.

عبدالرحمن جاويش

كاتب وروائي شاب من مواليد محافظة الشرقية سنة 1995.. تخرج من كلية الهندسة (قسم الهندسة المدنية)..صدر له عدة رويات منها (النبض صفر،) كتب في بعض الجرائد والمواقع المحلية، وكتب أفكار العديد من الفيديوهات الساخرة على مواقع التواصل الاجتماعي.. كما دوَّن العديد من قصص الديستوبيا على صفحته الشخصية على موقع facebook وحازت على الكثير من الإشادات من القراء والكُتَّاب كذلك..
زر الذهاب إلى الأعلى