طلاسم

الوصية

الوصية
* ربما كان يجب الفرار وليس فقط المغادرة، وقتما أخترت الإستمرار*

كان أبي رجلًا مثاليًا ولكنه لم يكن الأب المثالي، فقد كان رجل أعمال ناجح في الاستيراد والتصدير وكان أغلب وقته خارج المنزل ولذلك لم يكن الأب المثالي، فقد كانت كل علاقتنا به عبر أمي، سواء في التعاملات المادية أو حتي المعنوية مثل حضور حفلات المدرسة وإجتماع الآباء وخلافه.

أعتاد أن يغيب عن المنزل بالأسابيع ويعود ألينا محملًا بالهدايا والمال الوفير، ويقول أن الصفقة قد تمت، ولا يتخطى وقتنا العائلي هذا سوى بضع دقائق، ليذهب لمكتبه ويغلق بابه ولا نراه إلا علي المائدة في صباح اليوم التالي.

كان هذا الوضع يؤرقني كثيرًا أنا وأخي، ربما كنا نجد الصحبة في بعضنا البعض، ويميز ذلك الرابط أكثر فأكثر هو تقارب أعمارنا، وذهابنا سويًا للمدرسة والتمارين، وتقارب الشكل، حيث كان كثيرًا ما يظن الأخرين بأننا تؤام.

حياتنا تتميز بالرفاهية، وكان لكل شخص حياته المنفصلة، التي لا يشارك بها أبي سوى بالمال فقط،
تخرجت أنا وأخي من الجامعة وألتحقت بوظيفة في شركة شحن، وكان أخي مازال دون شغل ويرى أنه ليس علينا العمل بسبب ثراء أبي
وكانت أمي ترعانا وترعى المنزل وأيضًا تعمل بمنصب كبير بوظيفة إدارية في مكان قريب من المنزل، رغم اعتراض أبي علي عملها كونه رجل ثري، ولكنها أصرت علي العمل لوجود وقت فراغ كبير بحياتها وكون وظيفتها ذات منصب كبير، كان كل شيء في مكانه الطبيعي ويبدو أنه لا يوجد شيء يمكنه تعكير صفو هذه الحياة.. الحياة التي رُغم كونها باهتة فهي تسير في رتم ثابت دون مشاكل، حتي جاء الحدث الذي غير كل شيء.

ذات يوم كان أبي غائب عن المنزل لإتمام صفقة من صفقاته المعهودة، كان خارج المنزل منذ ثلاث ليالٍ فقط، وكنت أجهز للعمل وكذلك أمي وجالسين علي مائدة الافطار ومعنا أخي مثل كل يوم، حتي رن هاتف أمي برقم غريب يخبرها أن أبي قد مات !!!
لم يكن له رصيد من العاطفة في قلوبنا ولكن وقع الخبر كالصاعقة، أخبرنا هاتفيًا المحامي الخاص بالعائلة أن أبي ترك وصية ويجب قرأتها قبل إتمام مراسم الدفن.
أحضر أشخاص غرباء جثمان أبي للمنزل، يقولون انهم شركاء عمل في الصفقة الأخيرة، وجاء الطبيب وأيضًا المحامي، وتم الكشف الطبي وأكد الطبيب أن الوفاه طبيعية، وتم تجهيزه لمراسم الدفن في الصباح.

جلسنا جميعًا أنا وأمي وأخي والمحامي، وبدأ الأخير في فتح الظرف الذي يحتوي الوصية، سرد علينا محتوى الاوراق وهي تفاصيل العقارات والشركات التي يملكها، وتفاصيل حسابه، وأن توزع التركة كما ينص القانون، وفي أواخر سطور الوصية كان هناك كلام عاطفي مثل اعتذاره عن عدم تواجده معنا وتقصيره في دوره كأب، وطلب أن ننقش كلمات معينة ورسومات غريبة علي شاهد قبره، لم نتعجب من ذلك كثيرًا فقد كان أبي محبًا للسحر وعبارات جلب الطاقة وما إلى ذلك.
ولكن كانت نهاية الوصية غريبة إلى حد ما، قال ” إن نفذتم الوصية بالتفصيل وكما طلبت، فربما أكون معكم للأبد كما أدرتم دائمًا، أحبكم”.

مر الليل ولم أنم به للتفكير بما حل بنا وما سوف يكون بعد، أفكار كثيرة عصفت بذهني، حتي قطع شروق الشمس أفكاري، وذهبنا لإتمام مراسم الدفن ونقش المدفن شاهد قبره كما طلب وذهبنا بعدها للبنك بناءٍ علي رغبة المحامي لأتمام بضع أوراق حتى ينهي عمله سريعًا.
وعدنا إلى المنزل وقد أنهكنا التعب ونمنا جميعًا وكانت أمي حزينة للغاية، وفي المساء أيقظتنا أمي لتناول العشاء، وبعد الإنتهاء من العشاء وجدنا نور غرفة مكتب أبي يضاء!!! كيف يحدث هذا ونحن الثلاث جالسين سويًا علي طاوله العشاء، ذهبت أمي لتطفئه لعله عالق، حتي أتتنا صرخاتها العالية، هرعنا أليها أنا وأخي، وكانت الصدمة بأن أبي جالسًا في مكتبه كما أعتاد أن يفعل.. هو وليس شبح جسد من لحم ودم، أو هكذا أعتقدنا.
لحظات من الصمت الطويل، كأن المشهد داخل فيلم وأحدهم ضغط زر إيقاف مؤقت، واقفين بجانب الباب ننظر في هلع لأبي الجالس ومبتسم، قطع هذا الصمت أبي وقال” أنا الآن متفرغ لكم ومعكم للأبد”.
أستجمعت شجاعتي وسألته، كيف حدث هذا وأنا متيقن من وضعك داخل التابوت بيدي بنفسي وأكد الطبيب وفاتك الطبيعية.

قال أبي” أجلسوا وأستمعوا لي جيدًا، أولًا أحب أن أعتذر مرة أخرى بنفسي عن عدم كوني أبٍ جيدٍ لكم، وثانيًا فقد مات جسدي بالفعل، وما هي إلا روحي الآن التي تحدثكم وتظهر لكم وحدكم دون الآخرين وهذا بفضل الطلسم الذي جعلتكم تنقشوه علي شاهد قبري، ولذلك لا يجب أن تخبروا أحد عني حتي لا يقال أنكم مجانين.
كما تعلمون فقد كنت أعمل في مجال الأستيراد والتصدير ولكن كان هناك هوايات أخري وهي التنقيب عن الآثار وحضور مجالس إخراج الجن والعفاريت فقد كنت مُولعًا بتلك الأشياء وأجد بها لذة وإثارة، ولكن كان يجب أن أكون مشارك وأصبحت مع الوقت متقن لكتابة الطلاسم وإستخراج الجن المؤذي ولكن… لكل شيء ثمن، وكان الثمن هو روحي، ولكني عقدت صفقة أخرى رابحه ترضي جميع الأطراف وهي أنه يستطيع الحصول علي روحي ولكن عند نهايه الكون، وطلبت أن بعد وفاتي تعود روحي لتعيش معكم وأعوضكم عن كل ذلك الوقت بدوني، بالرغم من عدم قدرتي للظهور للآخرين ولكن أنتم من يهمني”.

أنهى أبي كلامه وتركنا في حيرة ودهشة وخوف، مشاعر مختلطة وعدم تصديق أو بالأحرى عدم استيعاب ولكنه لم يقدم إقتراحات أو خيارات فهو يقول أنه بالطلسم المنقوش علي شاهد قبره سوف تمكث روحه معنا حتى نهاية الكون، لا مفر إذًا والمطلوب الآن أن نتعامل مع هذه الظاهرة الخارقة وهي وجود روح أبي معنا بالمنزل، لماذا يبدو وقع الجملة غريب لهذه الدرجة؟!!.

كان أول أسبوع أغربه ولكنه كان مسالم تمامًا نجده في مكتبه ويقول أنه لا يقدر علي لمس الأشياء، نجلس سويًا بعد عودتنا من العمل ونتحدث كثيرًا وتعرفنا علي أبي الذي كان بالنسبة لنا مجرد ممول للعائلة، فهو صدقًا يحبنا كثيرًا ولكنه كان يظن أن إنهاك نفسه في العمل لتأمين مستوى مادي أهم من تلك اللحظات العائلية.

أعتدنا في هذا الأسبوع علي وجوده، ولكن بعد ذلك كانت له تصرفات غريبة مثل وجوده فجأة وسط غرفتي متبسمًا، ووجدته ممسكًا بأوراق وتصنع أنه لم يكن ممسكًا بها، إذًا فهو لديه القدرة لتحريك الأشياء من أماكنها ولم يريد إخبارنا لهدف ما في رأسه، ربما هذا يفسر غيابه عن المنزل ليلًا كل ليلة، والأختفاء من وسطنا فجأة، ثم أصبحت نظراته مريبة ويجلس محدقًا للسقف ساعات طويلة، ووجدته يصرخ في أحدى الليالي طالبًا العفو من أحد ما غير مرئي.

تعاملنا مع كل هذا الرعب، وسط صرخات أمي لأنها لم تقدر على التعامل مع فكره وجود شبح أبي بالمنزل، وكانت تهلع في كل مرة يظهر بها في مكان ما بالمنزل، أعتدنا وجود أبي وحبه لنا، ونقيضه وهو شبح مرعب يحدق بنا في صمت في الظلام ويختفي ويظهر ويعبث بالاشياء، ولكن جاءت القشة التي قسمت ظهر البعير، وهي أن الجيران أصبحوا يعاملوننا بطريقة جافة، ولا ندري لماذا، حتي جاءت صديقة للأمي من الجيران وقالت لها أن أغلب الجيران يرون شبح أبي يتجول في الشوارع ليلًا ويظهر للبعض داخل منازلهم وهذا يفسر معاملتهم المتغيرة.

ذهبت لصديق (مارك) لي لديه معرفة كبيرة بعلم الطاقة وأعتقدت أنه قادر علي مساعدتي، وبالفعل قال لي أن هناك طاقة سلبية كبيرة تحيط بي، أخبرته بما حدث معنا وصدقني بسهوله، وقال أن الحل بسيط وهو معرفة الطلسم المضاد لطلسم عودة الروح المكتوب علي شاهد قبر أبي، وطلب مني أن أتركه بضعة أيام للتواصل مع صديق أخر علي دراية بهذه الأمور.
ولكن عندما عدت للمنزل وجدت أبي، له نفس وجه أبي وهيئته ولكنه أضخم وأطول وتقفز من عينيه نظرات الشر، وأخبرني بصوت أجش يكاد من قوته يطرحني أرضًا، فقد اخذت خطوة للوراء رُغمًا عني بالفعل من قوة صوته وضخامته، تراجعت خوفًا وأقتربت من الباب مستعد للفرار ولكن الأبواب والنوافذ أُغلقت من نفسها في نفس اللحظه سويًا، وأبتسم لي وقال ” لماذا تفعل هذا في أبيك، أهذه كلمات الشكر التي تعبر بها عن أمتنانك لوجودي معكم بالمنزل أخيرًا، فقد تنازلت عن الكثير لأكون معكم هنا، لماذاااا!!؟؟؟ ”

كانت صرخاته عالية جعلتني أضع أصابعي في أذني، ولا مفر منه، حاولت تجميل الوضع وقلت له أنني أريد له الراحه في النعيم، ولكنه ضحك ساخرًا وقال ” نعيم!! أي نعيم ينتظر من باع روحه للجحيم مقابل إمتيازات دنيوية رخيصة، كل ما حصلت عليه هو الحفاظ علي روحي بعد الموت من أجلكم، وها أنت تثبت لي أنني كنت مخطئ”

أنقطعت الكهرباء، وأختفى أبي ولكني كنت محاصر بالمنزل لم أستطع مغادرته ولا أعلم كم مر من وقت، حتى جاءت أمي وأخي وكنت أنا ملقى على الأرض، أخبرتهم بما حدث، وأتصلت بصديقي وعلمت من والدته أنه مات!! منذ قليل وكانت صدمة أخرى.
ذهبت لجنازته ووجدت من يقترب مني ويخبرني أنه ( چون ) صديق (مارك)المتوفي وأنه يعرفني ويستطيع مساعدتي في موضوع أبي، أخذته لمقهى قريب لنتحدث، وقال ” الشبح العالق معكم هو شبح أبيك، فقد أبرم صفقة مع العالم السفلي تتضمن بيع روحه، ولكنه كان يعتقد أنه أبٍ سئ ولذلك عادت روحه ولكن إبرام الصفقات يكن به مكيدة بكل تأكيد، وما لا تعرفه روح أبيك أنه أصبح روح ملعونة وشريرة، وحل الأمر في عكس الطلسم كما أخبرك مارك رحمه الله عليه والذي أعتقد أن وفاته ليست طبيعية، دعنا نذهب لقبر أبيك الآن ونحل تلك المسألة..

وفي المقبرة أحضر (چون) شمعة وقرأ بضع كلمات ثم حفر علي شاهد القبر جملة، مع أخر حرف في الجملة كانت الجملة السابقة التي طلب أبي نقشها تختفي تدريجيًا، عندئذ ظهر أبي بصورته المرعبة وصوته الذي يصم الأذان، ورأيت (چون) يختنق أمامي ولكني بالكاد سحبته خارج المقبرة وسط نظرات أبي الغاضبة وهناك قوى خفية تسحبني للخلف وتسحب أبي داخل مقبرته، وهو يقول ” لا أريد أن أذهب للجحيم الآن فأنا قد عقدت صفقة، لا يمكن أن تفسدوها بمجرد كلمات هذا المشعوذ الفاشلللل!”
ولكن أستمرت القوى الخفية تسحبنا داخل المقبرة ولكني كنت أقاوم وأسحب (چون) الذي لا حول له ولا قوة وهو يختنق الآن، وفي الأخير دخلت روح أبي قبره وأنتهى كل شيء في لحظة بعد ما ظننت أنه لن ينتهي وأننا هالكين.

عدت للمنزل وقصصت على أخي وأمي ما حدث وأننا أنتهينا من الكابوس أخيرًا، ومر الوقت ولم يحدث أي شيء ولكن مازال نور غرفة مكتب أبي ينير وحده ليلًا.

زر الذهاب إلى الأعلى