سينما

الفيلم التاريخي؛ بين شاهين وتارانتينو

الفيلم التاريخي؛ بين شاهين وتارانتينوالفيلم التاريخي .. كثيرًا ما تمثل الأفلام التاريخية مطمعًا لدى أغلب صُناع السينما والدراما، تجد أغلب المخرجين والمؤلفين يشتاقون لفيلم تاريخي على الأقل في مسيرتهم.. فهي حبكات جاهزة، يتخيلها الجمهور دائمًا ويحب مشاهدتها، كما أن جمهورها جمهورين؛ جمهور العمل الإبداعي وجمهور الحدث التاريخي المأخوذ عنه العمل.. كما أنها في بعض الأحيان ما تخلد اسم الصانع وتنسب إليه الحدث التاريخي كما لو كان قد شارك فيه.

ولعل أبرز ما لم يصل لذهن المشاهد العربي عن الأفلام التاريخية أنها ليست مرجعًا يستمد منه التاريخ، وليس مطلوبًا منها أن تؤرخ للحدث كما ذكره المصدر التاريخي بالضبط، أولًا لاختلاف المصادر التاريخية، ثانيًا لأن هذا ليس عمل المخرج، فالمخرج يعرض الحدث التاريخي من وجهة نظره أولًا وأخيرًا، وعلى المشاهد دورًا ثقافيًا هامًا في تمييز ما هو حقيقي وما لم يحدث، تبعًا لوعيه وثقافته ومصادره التاريخية التي يثق فيها عن مصادر أخرى.

لدينا الكثير من النماذج على الأعمال التاريخية العربية التي ظنها المشاهدون مطابقة للتاريخ، ثم جاءتهم الصدمة فيما بعد حين قرأوا عن الحدث الأصلي، وقد واجه بعض صناع السينما في وطننا العربي تهمة تلفيق التاريخ، سواء في روايات تروي أحداث مختلفة مثل الفتن المختلفة على مدار عصور الدولة الإسلامية، أو الروايات التي تناولت الشدة المستنصرية، ولعل أبرز من كتب في “الرواية التاريخية” هو الكاتب علي أحمد باكثير الذي درسنا كتابه العظيم “وا إسلاماه”، وقد قرأت له فيما أذكر مسرحية عن الحاكم بأمر الله والعديد من الكتب والقصص التي حاول فيها إضفاء بُعد درامي على الأحداث التاريخية، دون خروج كبير أو مؤثر عن النص التاريخي الأصلي.

بالطبع هناك أعمال تتناول سير دينية لرسل وتابعين من كافة الأديان، وهنا يستوجب تقليل التخيل الدرامي للمؤلف مما قد يستفز عقيدة المشاهد، وهو ما نجح فيه على سبيل المثال المخرج “مصطفى العقاد” في فيلم “الرسالة” بنسختيه العربية والإنجليزية.. واجتهد فيه كذلك صناع مسلسل “عمر” عن قصة الصحابي عمر بن الخطاب.

أما عن أشهر الأعمال التي صنعت جدلًا واسعًا بين أوساط الجمهور ودارسي التاريخ؛ فآخرها كان ممالك النار والذي تم إنتاجه ردًا على المسلسلات التركية التي تتبنى الرواية العثمانية من التاريخ دون السردية المصرية.. وقد تحول الأمر من مجرد أعمال درامية لحربًا بين أيدولوجيتين راسختين في التاريخ؛ وروايتين مختلفتين للتاريخ المصري إبان الحكم العثماني لمصر؛ عما إذا كان فتحًا أو احتلالًا، وإن كان هذا ليس موضوع المقال، إلا أنه واجب الذكر.

وبرغم كل الأمثلة المضروبة؛ يظل “الناصر صلاح الدين” أكثر الأفلام التي شهدت جدلًا واسعًا، لا يخمده الزمان، بل على العكس يزيده اشتعالًا، فما بين اتهامات ليوسف شاهين بسرد تاريخ مزيف للحقائق، وما بين رد المؤرخين على شاهين والتشكيك في جودة عمل يتناول شخصية مؤثرة في التاريخ العربي والإسلامي.. جاء رد شاهين باهتًا على الأخطاء التاريخية المذكورة خلال أحداث الفيلم..

لعل أبرز هذه “الاختلافات” التاريخية عن المصادر دار حول “حاكم عكا” والذي ضُرِبَ به المثل في الخيانة بعد عرض الفيلم، إذ يقول المؤرخون أنه لم يكن خائنًا لولايته، على الأقل ليس بهذا الشكل الذي صوره الفيلم، وأنه حارب سنتين كاملتين ضد حصار الصليبيين، كذلك القائد عيسى العوام لم يكن مسيحيًا، وإنما كان مسلمًا، وكذلك ريتشارد قلب الأسد لم يكن بالوداعة التي ظهر عليها خلال أحداث الفيلم، وإنما كان ثبت عليه قتل أسراه بطرق وحشية.. كما أنه لم يلتقِ صلاح الدين كما فعل شاهين في المشهد الأهم خلال الفيلم.. علاوة على خلق الفيلم لبعض الشخصيات التي لم يذكرها التاريخ من الأساس.

لا أفهم حتى الآن عدم إدراكنا لما يعرف بمعالجة التاريخ دراميًا، والتنويه عن ذلك بأنه “تاريخ بديل” وليس رصدًا أو تأريخًا لأحداث تاريخية بعينها، فيستمتع المشاهد بالعمل في حدود كونه عملًا فنيًا يحمل قبسًا من الحقيقة التاريخية.. وهو ما فعله بجدارة المخرج الهوليوودي العبقري كوينتين تارانتينو في فيلمه “أوغاد مجهولون” أو Inglourious basterds.. والذي رسخ قاعدة “التاريخ البديل” من اللحظة الأولى ليتجنب صراع المؤرخين ويكتفي بصراع النُقاد والجمهور، كأي عمل فني آخر.

يروي الفيلم باختصار حبكة خيالية لاغتيال القيادات النازية في ألمانيا خلال فترة الحرب العالمية الثانية، وتتحرك حبكة الاغتيال في خطين دراميين؛ الأول مع فتاة يهودية قتل النازيون عائلتها، والثاني حول فرقة من المجندين الأشداء بقيادة الملازم “ألدو راين”.

كانت مشاهدتي للفيلم تجربة ممتعة، ما بين الحوارات الطويلة التي لا تشعر أنها كذلك إلا حين تشاهد شريط المدة الزمنية للفيلم، فلم أصدق أن أول مشاهد الفيلم استغرق أكثر حوالي عشرين دقيقة كاملة دون أن أشعر.. مع قفزات تارانتينو غير المتوقعة ورواية تاريخ جديد من وجهة نظر أشخاص لم يعيشوه واقعًا لأنهم لم يخرجوا عن ساعتين ونصف هما مدة أحداث الفيلم.. كانت التجربة ممتعة، تحالف فيها الخيال مع بعضٍ من الأحداث التاريخية والشخصيات التي وجدت إبان فترة الأربعينيات، ليخلق مزيجًا مختلفًا عن التاريخ، وأكثر إثارة من وقائعه التي قد تكون مملة أحيانًا.. وأظن أن هذا الفيلم هو أفضل طريقة لتناول التاريخ، بعيدًا عن السياسات وكواليس غرف الحكم، وتحويل دفة البطولة نحو الأفراد ممن عايشوا التاريخ بعيون العوام.

اقرأ أيضاً

عن رامي وصراع الهوية

كذب the simpsons ولوصدقوا

عبدالرحمن جاويش

كاتب وروائي شاب من مواليد محافظة الشرقية سنة 1995.. تخرج من كلية الهندسة (قسم الهندسة المدنية)..صدر له عدة رويات منها (النبض صفر،) كتب في بعض الجرائد والمواقع المحلية، وكتب أفكار العديد من الفيديوهات الساخرة على مواقع التواصل الاجتماعي.. كما دوَّن العديد من قصص الديستوبيا على صفحته الشخصية على موقع facebook وحازت على الكثير من الإشادات من القراء والكُتَّاب كذلك..
زر الذهاب إلى الأعلى