مقالات

محمد مشالي ..رحل القديس طبيب الغلابة

42cf777c 6456 4d26 a6e2 8cd65197d5d0

 


محمد مشالي .. رحل القديس.. طبيب الغلابة، الذي اقتبس أفلاطونية الفلسفة ووضع أسسها في تاريخ الطب

” انتقل إلى رحمة الله تعالى والدي الدكتور محمد عبد الغفار مشالي والدفنة بعد صلاة الظهر بالبحيرة”
كلمات ثقيلة بدأنا بها اليوم، جاءت على لسان وليد مشالي نجل طبيب الغلابة، يعلن نهاية مشوار القديس صاحب المدينة الفاضلة في الطب، الدكتور محمد مشالي..

عُرف الدكتور محمد مشالي، باسم “طبيب الغلابة” بين سكان طنطا ومدينة شيخ العرب، نظراً لتقديمه المساعدة لجميع المرضى نظير قيمة كشف لا تتجاوز 10 جنيهات.. حتى الآن، بناء على النصيحة التي قدمها له والده بعد تخرجه من كلية الطب قبل أكثر من 50 عاما، وهي: “راعى الغلابة في عملك “.

 فـمن هو طبيب الغلابة؟

ولد الدكتور محمد عبد الغفار مشالي في مركز إيتاي البارود بمحافظة البحيرة عام 1944 لأب يعمل مدرساً، و انتقل الأب إلى محافظة الغريبة، واستقرت الأسرة هناك.
تخرج من كلية طب  القصر العيني بالقاهرة عام 1967 وتخصص في الطب الباطني وطب الأطفال والحمى، و مارس عمله في عدد من المراكز الريفية والوحدات الطبية التابعة لوزارة الصحة المصرية في مختلف المحافظات، حيث تدرج “طبيب الغلابة” في المناصب داخل مستشفيات محافظة الغربية، فشغل منصب مدير مستشفى الأمراض المتوطنة ثم مديرا لمركز طبي “سعيد” بطنطا حتى خروجه على المعاش في 2004، ولديه 3 عيادات في مدينة طنطا، بجوار مسجد السيد البدوي، والثانية في قرية محلة روح، والثالثة في قرية شبشير الحصة، بمركز طنطا، وذلك بناء على رغبة المواطنين لعدم قدرتهم على التنقل بين القرى وبعضها.  

وكان يقوم برعاية إخوته وأبناء أخيه الذي توفي قبل الأوان وتركهم له، لذلك جاء زواجه في وقت متأخر من حياته، وأنجب 3 أولاد تخرجوا جميعاً من كلية الهندسة.

لسنوات عديدة، خصص الدكتور مشالي قيمة الفحص في عيادته التي لا تتجاوز 5 جنيهات، وفي النهاية ارتفع إلى 10 جنيهات، وغالباً ما يرفض الحصول على قيمة الفحص من المرضى الفقراء، وغالباً ما يشتري لهم العلاجات والأدوية اللازمة لهم،
وتقديرا لجهوده، أطلقت محافظة الغربية اسمه على أحد شوارع طنطا، بعد أن طالب سكان المحافظة بتكريمه..

الغلابة يشهدون لطبيبهم:

       تقول إحدى السيدات، إنها تقيم في طلخا بمحافظة الدقهلية، وجاءت إلى عيادة الدكتور محمد مشالي نظرا لكبر سنه وخبرته الواسعة في مجاله، مشيرة إلى أنها بعد الاطلاع عليه على مواقع التواصل الاجتماعي، قررت الحضور إلى عيادته للاطمئنان حيث لديه خبرة طوال سنوات عمله..

وعن امرأة أخرى قالت إنها ذهبت إلى عيادة الدكتور محمد مشالي لأنه تمكن من الكشف عن المرض الذي يعاني منه طفلها الصغير، ولم يتمكن أي من الأطباء غيره من معرفة ما يعاني منه صغيرها، مشيرة إلى أنها وأقاربها كانوا يعالجون أبنائهم عنده منذ طفولتهم وحتى الآن يجلبون أطفالهم للعلاج بين يديه.

وفي حين أضافت سناء سعد من مركز قطور، جاءت إلى مدينة طنطا لخبرته في علاج الأمراض الباطنية والحمى والأطفال، وكان الدكتور مشالي يعالج والدها منذ 20 عاماً.

وكشفت سعد أنها حضرت إلى العيادة ورافقت حفيدتها بعد ذهابها إلى مستشفى حمى طنطا والخدمة الصحية القروية وصيدلية القرية، ولم يأتي الشفاء بالعلاج الذي حصلت عليه من هذه الجهات، ولكن مع خبرة الدكتور محمد مشالي تمكنت من تشخيص ما كانت تعاني منه وبدأت حالتها تتحسن.

عندما بكى طبيب الغلابة:

ولعل أبرز مواقفه الإنسانية، بكاؤه، عندما طلب طفل صغير في السن وكان مريضا بالسكر، من والدته أن تشتري له حقنة الأنسولين لأنه يشعر بالإعياء الشديد، إلا أن والدته التي لم تكن تمتلك أموالا قالت له في حزن: “لو اشتريت لك الحقنة سوف يموت أشقاؤك جوعا”. وبعد لحظات صعد الطفل إلى سطح منزله وأشعل النار في نفسه.

 “لقد مت يا أمي كي يعيش إخوتي”.. هذا ما قاله الطفل وهو يحتضر وسمع ذلك طبيب الغلابة إنه كان حينها يخدم بوحدة صحية هناك، والذي كان قد سارع إلى الطفل محاولا إنقاذه، إلا أن روح الطفل فاضت إلى بارئها وهو ما كان له بالغ الأثر على حياة الدكتور مشالي والذي قرر بعد هذا الموقف أن يوهب حياته لخدمة الفقراء بدون أجر وتعهد الدكتور مشالي بعلاج الغير قادرين دون مقابل، بل وشراء الأدوية لهم أيضاً إذا لزم الأمر.

محافظة الغربية تطالب بتكريم طبيبها:

   خلال الشهور الأخيرة بادر عدد من المواطنين بمحافظة الغربية حملة شعبية للمطالبة بتكريم “طبيب الغلابة” كما يصفه أهالي محافظة الغربية، حيث أن سعر “الفيزيتا” في عيادته حتى الآن لا يزيد عن 10 جنيهات، وفي عيادة أخرى “5 جنيهات”.

وفي مارس عام 2019، اشتهرت قصة الدكتور محمد مشالي؛ ليصبح حديث مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام وسارعت جهات عدة لتكريمه والاحتفاء به.

   فاختارته نقابة الأطباء بالغربية للحصول على لقب الطبيب المثالي على مستوى الجمهورية، للحصول على شهادة تقدير وتكريم في اليوم العالمي للطبيب.

وصايا الدكتور محمد مشالي، وآخر أمنياته:

    من يقرأ أو يسمع تصريحات الدكتور محمد مشالي لا يخفى عليه توجهاته الفكرية ورسالته الروحية ومشروعه الاجتماعي الذي ينتمي إليه، حيث انطلقت أفكاره تطالب بالحق في الصحة والدواء للجميع بشكل عام فحسب، بل “للفقراء” بشكل خاص نظراً لحاجتهم الماسة والدائمة للدواء، ولأنهم أكثر عرضة لأخطار المرض وبطش الأوبئة، تلك الطبقة التي أختار بنفسه أن يعيش بينها، دون أن يلقى بالاً لعيادة خاصة تستهدف ربحاً عالياً أو مكاناً راقياً أو طبقة من الأغنياء الذين يستطيعون العلاج حتى خارج البلاد إذا لزم الأمر..

فماذا قال طبيب الغلابة قبل وفاته؟

   بعد أن نال شهرة واسعة داخل وخارج حدود محافظته، توجه إليه بعض رجال الخير لمساعدته، حيث عرضوا عليه تجديد عيادته أو نقلها إلى مكان أرقى، لكنه رفض رفضاً تاماً وقال:
” أنا في منطقة شعبية، وعيادتي دي أنا عمري ما أسيبها، الناس غلابه وأنا بساعد الغلابة”، هذا ما قاله الدكتور الراحل قبل وفاته ببضع أسابيع.

وأضاف مشالي” إذا أردتم المساعدة عليكم بالتوجه إلى الجمعيات الخيرية، ومساعدة الفقراء والمحتاجين، أما أنا فلن أرحل عن عيادتي حتى مماتي، وكأنه كان له مع الله وعداً ليحقق له أمنيته.

وخلال حوار تليفزيوني قال: “أن الطب هو مهنة إنسانية وهذا هو ما علمنا آياه أباءنا وما علمتنا آياه المهنة، ولا يجب استغلال المرضى، وكان والدي على فراش الموت قال لي عندما كنت قاربت من التخرج “اوعا تاخد فلوس كشف من الفقراء”.

وأضاف.. عندما تخرجت بدأت عملي في القرى بالغربية، وسط الفقراء والذين يحتاجون للمساعدة، أوصيكم بالفقراء خيراً أوصيكم بالعدالة الاجتماعية.

    كما يكشف طبيب الغلابة أن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر كان له دورًا في تغيير حياته، بعدما أصدر قراره بمجانية التعليم حيث يسرد تفاصيل ذلك بقوله: “نشأت في بيئة متوسطة وخدت الثانوية العامة بتفوق ووالدي أخدني علشان يقدملي في كلية الطب في القاهرة ولقى أن المصاريف هتبقى غالية فقالي يا ابني المصاريف هتبقى غالية ويشاء ربنا في هذا اليوم مساءً ويصدر الرئيس جمال عبدالناصر قرارا بمجانية التعليم ولو مكنش القرار ده مكنتش اتعلمت، وأبويا قالي اطلع بقى جري قدم، ولولا هذا القرار كنت زماني شغال في المواصلات أو الأتوبيسات ولما قولتله نفسي أبقى دكتور قالي هجيبلك منين أنتم 6 عيال هصرف عليكم منين”.

   مما كان له أثره الكبير في تشكيل شخصية وأفكار الدكتور مشالي ودعمه للفقراء.

آخر أمنيات طبيب الفقراء:

    أكد مساعد “طبيب الغلابة” أن الدكتور “مشالي” كانت له أمنية أخيرة كثيرا ما تحدث عنها أمامه قائلا:” أتمنى أن يأتيني الموت وأنا أؤدي واجبي داخل العيادة بين المرضى”
وأضاف: “لم يرغب في التوقف أبدا عن تقديم المساعدة والدعم للبسطاء”.

مصر تنعى:

    بعد ساعات من وفاته، نعى شيخ الأزهر، عبر صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي، «فيس بوك”: “رحم الله طبيب الغلابة الدكتور محمد مشالي، وأسكنه فسيح جناته، ضرب المثل في الإنسانية، وعلم يقينًا أن الدنيا دار فناء، فآثر مساندة الفقراء والمحتاجين والمرضى، حتى في آخر أيام حياته، فاللهم أخلف عليه في دار الحق، وأنزله منزلة النبيين والصديقين والشهداء.. إنا لله وإنا إليه راجعون».

وتكدست مواقع التواصل الاجتماعي بكلمات الرثاء والعزاء والدعاء له بالرحمة، لما كان يمثله من نموذج إنساني نادر في خدمة الفقراء وإعلاء الإنسانية فوق أي اعتبار.

    كما نعى الدكتور محمد عثمان الخشت رئيس جامعة القاهرة وفاة الدكتور محمد مشالي، حيث قال:

” رحم الله الدكتور محمد مشالي طبيب الغلابة والذي كان رمزًا حيًا للأخلاقية والإنسانية، والعطاء دون مقابل، والرحمة بالآخرين، لقد أكرمه الله بعلم لم يبخل به، كما رزقه الله رحمة في قلبه جعلته ملاك رحمة للغلابة، نذكره بالخير وندعو الله له بالرحمة والمغفرة، وسوف نقوم بتكريم اسمه في عيد العلم القادم بجامعة القاهرة إن شاء الله تعالى.”

  ونعت النقابة العامة للأطباء المصريين، في بيان رسمي، “الدكتور مشالي”، مشيرة إلى أنه أمضى سنوات طويلة في خدمة وعلاج المرضى، وقدمت خالص العزاء لأسرته.

وأوضح جرجس رزق الله، الأمين العام لنقابة الأطباء بالغربية، أن الراحل كان رمزًا للطبيب المتفاني في عمله ومهنته دون النظر إلى التعويض المالي، مشيرًا إلى أنه يهتم بخدمة المريض في المقام الأول.

ونشر الفنان محمد هنيدي تغريدة على تويتر نعى فيها رحيل الطبيب الزاهد، قائلا: «ربنا يرحمك يا دكتور، رحلة عظيمة كان عنوانها العطاء وخدمة الغلابة”

ونعى النجم أمير كرارة الطبيب الراحل بنشر صورة للدكتور مشالي وتغريدة على تويتر، قال فيها: «اللهم ارحمه كما كان رحيما بعبادك الفقراء، واجعله أغنى أغنياء جنّتك”

وعلى انستجرام نعى الفنان أحمد سعد، طبيب الغلابة، قائلا: «البقاء لله.. اليوم فقدت الأرض جزءا كبيرا من الحنية والعطاء والرحمة بوفاة هذا الدكتور العظيم.. ربنا يرحمه”

ونشرت الفنانة ريهام عبد الغفور صورة لطبيب الغلابة عبر موقع تويتر، وغردت قائلة: «الله يرحمه كنت بحبه أووي”

وغردت المطربة كارول سماحة عبر تويتر قائلة: «ما أعظم الإنسان عندما يكرس حياته للغير!! الله يرحمه”

السؤال الأخير:

   بعد أن اختارته السماء كي يكون رفيقاً للأبرياء والشهداء والأنبياء والصديقين، وبعد أن بكت قلوب الفقراء وعيونهم وشيعته أرواحهم إلى مثواه الأخير..

من يبقى للفقراء الآن …؟

وهل نجد بين صفوفنا من يستطع أن يرفع رسالته السامية في وجه الشمس، ليوفّر قدراً من الظلال لمن هم في حاجة إليها؟

ليس فقط في مجال الطب، بل في مجالات عديدة لا تقل أهمية عن الدعم الصحي، كتطوير التعليم، وتبني البحث العلمي بكافة أشكاله، وتنمية الإبداع والثقافة وخلق فرص جديدة للعمل، وغيرها من أشكال الدعم في مجالات استراتيجية كالصناعة والزراعة، بل وفى مواجهة الفساد والقضاء عليه ..
العشرات والآلاف من الفقراء قد أنقذهم الله على يد “طبيب الفقراء”، لكن هناك الملايين والملايين من الأبرياء مازالوا في الانتظار.. فمن ينقذهم؟

رحم الله رجلاً عاش في سبيل الأبرياء.. فخلده التاريخ
رحم الله الدكتور مشالي..

 

زر الذهاب إلى الأعلى