سمية بنت مسرور و الحصان مسحور .. من حكايا العرب (الجزء الأول)
في قديم الزمان في بلاد العربان كان شابًا من سادة بني أصلان يعيش مع أخته بعد أن مات والدهما المسرور في حرب قحطان وماتت الوالدة لما تكاثرت عليها الأحزان.
كان يسمى عمرو وأخته تسمى سمية.. أما عمرو ففارس قومه يركب الحصان البري الأبي بدون سرج ولا لجام فيروده.. ويجعله طوع أمره، ويرمي السهام وهو ممتطيًا ظهره. أما في المبارزة فلم يصمد أمام سيفه المهند سيف في نزال.
وسمية فهي أجمل بنات القبيلة، يتهافت على خطبتها كل أبناء عمومتها فتأبى وتترفع ولم تفلح معها أي حيلة. حاول أخوها كثيرًا أن يقنعها بالزواج لكنها رفضت بعناد.. فيأس منها وقال لها: لكي ما تريدين لن أرغمك على الزواج، وأنت معي مصون، حتى يأتيني المنون. فهدأ قلبها وعلى البشر وجهها.
لم يكن أجمل ما يميز سمية وجها الفتان أو خصرها الريان، بل كانت حكيمة الأقول راجحة العقل سديدة الأفعال.. ولم ترى في أي من أبناء عمومتها من يصلح لها، فقد رأتهم جميعًا طائشين لا يشغلهم سوى تتبع الغانيات والسهر في الحانات.
وفي يوم من الأيام بينما أخوها مع أقرانه في رحلة صيد في البيداء إذ وجدوا حصانًا شاردًا يلهث يبحث عن ماء. لم يعرفوا من أين أتى في هذه المنطقة القاحلة لكنهم أخرجوا ماءً من الراحلة وسقوا الحصان فشرب وارتوى وعادت إلى جسده القوى.
وهو حصان أسحم أسود لا بياض في جسده قوي الفخذ عظيم الصدر، حاول الجميع امتطائه لكنه كان يثور ويقفز ويدور حتى يرمى بهم من على ظهره في لحظات. فجاء عمرو بن المسرور وربت على رقبة الحصان وكلمه قائلًا: لا تخف أنت معنا في أمان، وأعطاه بعض الطعام ثم ركب على ظهره فهدأ الحصان ومشى في إذعان.
قال عمرو: أما وإني الوحيد الذي امتطيته فهو ملكي.
اعترض بعضهم قائلين: لكننا جميعًا وجدناه.. رد: لكنكم جميعًا سقطتم من على ظهره، عار عليكم يا فرسان أصلان.. هل ستتركوه لي أم أخبر كل القبيلة بخيبتكم الثقيلة. فسكت المعترضون.
قرر الشبان أن يتسابقوا في طريق عودتهم، وسرعان ما سبق عمرو الجميع بحصانه الجديد الذي كان سريعًا بدرجة لم يرى عمرو لها مثيل. فكان أول الواصلين وعاد إلى بيته وأدخل الحصان في مربط الخيول ووضع له الماء والشعير، ثم صعد إلى أخته يخبرها بغنيمته الثمينة.
هنأت سمية أخيها بحصانه الجديد، ولما رأت سعادته الكبيرة به وعدته أنها ستغسله في الصباح وتزينه وتحلق له، حتى يصبح أجمل حصان في القبيلة.
في الصباح نزلت سمية للحصان فدخلت عليه مربط الخيل، وبمجرد دخولها بدى على الحصان انتباهة كأن ثعبان قد لدغة فقام والتف بجسده ناحيتها ففزعت الفتاة وألقت بدلو الماء على الأرض وفرت هاربة.
ظل الحصان يتتبعها بعينيه بنظرة مفتونة ذاهلة، نظرة من وجد حبيبًا يبحث عنه منذ سنين.. لكن بعد أن استترت عن عينه تمامًا، أفاق الحصان من ذهوله، وبدأ يشد عقاله بقوة جنونية، حتى هز البيت كله، وكان البيت مبني من جذوع الشجر مكون من طابقين، ومربط الخيل في الطابق الأول.
استيقظ الأخ مفزوعًا من نومه ظن أن الأرض تتزلزل، فذهب يبحث عن أخته في الحجرات فلم يجدها فنزل مسرعًا إلى الشارع فوجدها تقف في هلع تنظر ناحية مربط الخيول، لما رأت أخاها، قالت بهلع هذا الحصان مجنون لم يكد يراني حتى كاد ينقض علي.
جرى عمرو ناحية الفرس وحاول تهدئته لكن هذه المرة لم يفلح وكاد الحصان أن يرفسه فيقتله لولا أنه قفز في آخر لحظة وأطلق صرخة .. فهرعت الأخت إلى أخيها خائفة عليه.
وبمجرد أن رأها الحصان سكن وهدأت ثورته، وظل ينظر إليها نظرة ولع كأن الحصان قد عشقها. تعجب عمرو من الأمر، ولما رأت سمية هذا اقتربت من الحصان بهدوء ووضعت يدها على رأسه فظل الحصان يحك رأسه في يديها بهدوء بدون أن يرفع من عليها ناظريه.
أشارت له بالجلوس فجلس كالمسحور، تناولت الدلو ووضعته أمامه وربتت على ظهره فلم يأبه بالدلو ولم ينظر إليه حتى أشارت هي بيدها إلى الدلو فمد فمه إليه وشرب.
أما عمرو فكان من فرط الدهشة يكاد يفقد القدرة على النطق.. شرب الحصان وأكل ولم يرفع من عليها ناظريه.. أشارت سمية لعمرو بالانصراف، وقالت أن الحصان قد هدأ، فقام عمرو من مكانه مذهولًا وهو يقول بابتسامة متعجبة وبنبرة متندرة: ما أعجب تلك الأيام، حصان تسرق لبه امرأة!
جلست سمية معه حتى اقتربت الشمس من كبد السماء، فربتت على رأسه وقالت بصوت حنون: لدي الكثير من الأعمال، ويجب أن أنصرف، أرجوك ألا يجن جنونك، وسأتيك كل يوم، إن جن جنونك بهذه الطريقة لن آتيك بعد ذلك.
هز الحصان رأسه كمن فهم كلامها، قامت وانصرفت فتبعها الحصان بعينيه حتى غابت فأشاح برأسه ولمعت عيناه وشُدت عضلات وجهه كأنما يبتسم.
صعدت سمية إلى أخيها فقال لها بسخرية: هل سمح لك الحصان العاشق بالانصراف؟!
قالت: كفى مزاحًا يا عمرو، هذا الحصان ليس كأي حصان آخر، لقد شعرت من داخلي أنه مختلف، شعرت أن هناك سرًا وراءه، شعرت أنه يفهم ما أقول وأن نظراته تشبه نظرات البشر، لا يمكن أبدًا أن تكون هذه نظرات حصان.
ضحك عمرو بقهقهة وقال: لا هو حصان، لكن لم يستطع أن يقاوم فتنة جميلة بني أصلان.
قالت: هل أطلقت عليه اسمًا؟
رد: لا لم أطلق عليه اسمًا بعد، لكن ماذا برأيك نسمي هذا الفرس المسحور بجميلة بني أصلان.
ردت: نسميه “مسحور” نعم، مسحور، هذا يليق جدًا به، فهو ليس عاديًا، هو كأنه مسحور. كانت تقول ذلك وهي تنظر للسقف كأنها فقدت صوابها.
ضحك عمرو بقهقهة ثم قال: سميه ما تشائين فأنا لا أهتم بخيالات النساء وأوهامها، المهم أن لا يثور مرة أخرى مثل هذه المرة فيهدم البيت فوق رؤوسنا.
قالت: لا تقلق، لن يثور، لقد وعدني أنه لن يثور طالما أحضر له الطعام كل يوم.
ضحك عمرو بقهقهة وقال: وعدكي؟! يبدو أن الحصان ليس وحده المجنون، ضحك مرة أخرى بقهقهة.
يُتبع…