قصص الرعب

سرقات صديقة

الحلقة الأولى

سرقات صديقة

داخل أحد البنايات القديمة, تلك البنايات التي ظلت محتفظة بمميزات فريدة  قلما ما تحويها  بنايات تلك الأيام, ميزات كتلك الدرجات الموزعة بحرص على محيط دوائر واسعة مما يجعل عملية الصعود  اقل إرهاقًا, فلن تشعر بقدر كبير من التعب  لو كنت تنوي  الوصول للطابق الخامس وبالتحديد  مقر العيادة النفسية, حيث تستطيع بمجرد الوقوف أمامه-إذا كنت تتمتع بنظر قوي- أن ترى في القسم الخاص بالاستقبال تلك الفتاة البسيطة, تلك البساطة التي تشعرك أنه ليس من العسير تجاذب أطراف الحديث معها والاستفسار عن أي شيء تريد.

و لعل هذا كان مقصودا في اختيارها وخاصة في عيادة بمثل هذا التخصص. هل التقطت أنفاسك, واثق الآن من قدرتك على الدخول والتحدث بدون فواصل من صمت اضطراري تستقبل  فيها شحنات الهواء المتتالية. إذا هو الوقت المناسب لتشعر بأنك شخص مرحب به عندما تتلقى تحيتك منها. من “سحر”.

“سحر” طالبة جامعية  في السنة النهائية وبجانب الدراسة تعمل في تلك العيادة منذ وقت ليس بالطويل, تستطيع تلخيص وظيفتها في بضع مهام بسيطة: حجز المواعيد، الإجابة على المكالمات الهاتفية و تحمل انفعال “العملاء” عندما تتأخر مواعيد دخولهم عن المحدد نتيجة استهلاك أحدهم وقتًا أكثر من المفترض أن تستغرقه الجلسة.

وعلى الرغم من هذه المضايقات إلا أن الراتب المعقول والعمل فترات مسائية  لأيام معدودة  خلال الأسبوع يترك لها الفرصة  للالتزام بواجبات الدراسة, و هذا يعتبر أغرائها الوحيد للاستمرار وتحمل هذا الضغط المتكرر!  أما ما لا يمكن تحمله هو الملل، تمضية اليوم جالسًا منتظرًا بدون أنترنت بسبب ضعف شبكة المحمول, وبالتالي لا يمكنها فعل شيء سوى التحفز لسماع صرير الباب وخروج العميل الحالي.

فتهرع  لحجز ميعاد جديد له ثم تُدخل الآخر و الذي حان دوره ثم الانتظار مجددًا لسماع الصرير والدوران في تلك المتاهة حتى ينكشف أمامها فجأة باب الخروج منها مع انتهاء وقت العمل!

***

نهاية يوم ممل أخر، جلست “سحر” تحاول قتل الوقت القليل المتبقي  بمشاهدة  ذلك البرنامج السخيف المهتم بطلاق فنان لا تستطيع حتى تذكر إحدى أعماله، وهي تمني نفسها بانتهاء متاهة اليوم بخروج العميل الأخير لتغادر بعدها وتنهي يومها  بمشاهدة بضع حلقات مسلسلها الكوميدي المفضل حتى يغلبها النوم.

قطع تفكيرها خطوات مقتربة بطيئة و ثقيلة و كأن صاحبها يجر قدمه  جرًا، نظرت للساعة المعلقة وقبل أن تبدأ في التساؤل وجدته أمامها مباشرة.

شاب اسمر في العشرينات من عمره, يرتدي ملابس بسيطة  لم تنجح في إخفاء جسده النحيل وبالتأكيد ساهمت في  انتشار رائحة السجائر التي تشربتها حتى الثمالة! فبمجرد دخوله أضاف للمكان رائحة الدخان و الذي لا تستطيع تحمله فعزمت على إفراغ كل المتبقي من معطر الجو بمجرد انصرافه,  وأملت أن يكون هذا كافيًا للتخلص من رائحة الحريق التي انتشرت في المكان وكأنه قام بتدخين قطار بخاري للتو وليس مجرد لفافات تبغ.

– السلام عليكم. حضرتك كنت عاوز اكشف.

نظرت إليه  في استنكار, مستغربة من صفاقته. تأتي في نهاية اليوم وتطلب كشف بهذه البساطة! كانت كل ما تفكر فيه أنها ستضطر -إذا سمحت له بها- الانتظار لمزيد من الوقت حتى ينتهي هو أيضًا, لتقوم بعدها  بالإجراءات الختامية المعتادة من إنهاء الحسابات المالية مع الطبيب ثم أغلاق العيادة… فقالت في لهجة تعمدت أن تكون حاسمة :

– لازم يكون في ميعاد سابق, ممكن تحجز النهارة اقرب ميعاد يناسبك.

– مش هينفع, محتاج اكشف النهاردة ضروري جداا.

قالت بنفاذ صبر محاولة الحفاظ على هدوءها  قدر الإمكان, وكلها إصرار على  أن لا تمضي المزيد من الوقت في هذا المكان:

– دي أوامر الدكتور يا أستاذ! في بكرة ميعاد الساعة ….

اضطررت لقطع حديثها أمام نظراته و التي شعرت وكأنها تخترقها كالرصاص, و كان واضحًا  يده التي أخذت في الارتعاش منذرة بهياج أو عدوانية على أقل تقدير! و لم يكن هناك غيرها لاستقبال هذا أو ذاك فأثرت السلامة وقررت إعمال صوت العقل, و هو تأجيل المواجهة حتى ينهي الطبيب ما يفعله و يتصرف وقتها هو في تلك المشكلة  كما شاء!

فقالت بصوت مبحوح:

– طب أتفضل حضرتك ارتاح لحد ما الحالة  اللي جوه تخرج وأبلغ الدكتور أنك هنا.

تجنبت قدر الإمكان النظر في عين الزائر الغير مرحب به ، استمرت مستويات عدم الراحة  تتزايد حتى أصبحت تتحول بداخلها تدريجيًا لخوف من شيء لا تعلمه, أخدت تفكر في أن هذا الرجل به شيء غير طبيعيًا، ثم في محاولة طمئنة نفسها  فكرت لماذا الخوف من الأساس! هو أحد هؤلاء المساكين التي أوصلته معاناته لدرجة عدم القدرة على التعامل معها  ودفعته لفعل تصرفات لا يعنيها أو حتى يشعر بمدى ازعاجها لمن حوله.

القت عليه بطرف عينيها نظرة اخرى ثم قالت لنفسها: لا! لا يبدو هذا المريض مسكينًا على الإطلاق، انه  مستمرًا في رمقي بنظرات ساخرة و كأنه يشعر بخوفي منه، فسعلت بشكل مفتعل وقالت وهي تحاول أن تغلف  كلماتها  بقناع عدم الاكتراث:

– طب أتفضل نأخذ البيانات لحد منشوف الدكتور هيقول أيه؟

بدأت شفتاه بالتحرك بنفس اللحظة التي انطلق فيها الصرير المحبب وقبل أن يخرج العميل كنت تقف أمام الطبيب وضربات قلبها تدق بانفعال وكأنها هي الاخرى تطلب النجدة.

نظر إليها الطبيب في تعجب قبل أن يهتف:

– في أيه يا “سحر”! بتنهجي كده ليه؟

فقالت في سرعة و كأنها تتخلص من حمل أثقلها لأيام طوال :

– في واحد بره مصمم يدخل ومش واخد ميعاد ولا راضي يجي في يوم تاني، ولو حضرتك مش هتعرف تشوفه دلوقتي ياريت تقوله بنفسك لأني مش عارفة أتعامل معاه!  شكله انه مش في حالة طبيعية خالص!

نظر لها الطبيب بنظرة حملت الكثير من اللوم! خاصة و أن الحالة السابقة ما زلت تقف في الغرفة, فقال بلهجة عملية :

-احجزي للأستاذ جلسة الأسبوع الجاي ودخلي الحالة للي بره.

صاحت  في لهفة:

– امشي بعد ما احجزله؟

– لا استنىي عشان تقفلي العيادة ونقفل حساباتنا, مش هطول معاه.

***

كان الطبيب يشعر بقدر كبير من الغيظ بما فعلته مساعدته, فبعد يوم مرهق للغاية والتعامل لساعات مع أنواع من الشخصيات مفرطة الحساسية والانتباه لأقل حركة من عينيك, أي تصرف حتى  لو مجرد زفرة هواء تخرج في الوقت الخطأ أو الحديث العملي  في وقت ينُتظر فيه تعاطف! كان المفترض والظروف الطبيعية أن يكون رد فعله أكثر قوة ومتنفسا لتعب يومه, ولكن سبب الإرهاق يؤدي في نفس الوقت إلى أن تصبح  أكثر خبرة وقدرة  على التحكم في ما يظهر على وجهك وطريقة إخراج نبرات صوتك, والسيطرة على ما تقوله وكيف تقوله بغض النظر عن حالتك وقتها…وهذا كله ما ساعده في تمالك أعصابه وعدم الانفعال أمام من كان حاضرًا في  تلك الواقعة.

و لكن بداخله  شعر أنه  قد تساهل معها  في عدة مواقف سابقة والتي أدت بالتأكيد لتصرفها هذا, واخذ قرارا بالحديث الجاد معها وتذكيرها بمهامها الأساسية في وقت لاحق! فإذا كان عليه التعامل في كل المواقف ومواجهة قلة حيلتها, فما الفائدة من وجودها في الأساس!

أما إصرار تلك الحالة على الدخول فقد خمن أنه ينبع من فكرة أساسية وهي تأكيد قدرته على فعل ما أراد حتى لو كانت مجرد مقابلة الطبيب, و سعيه للشعور بتقدير الآخرين وسامحهم له بفعل ما أراد بمنتهى السهولة حتى لو كان هذا مخالفًا لبعض القوانين. فقال لنفسه : فلنستقبله ونعطيه ما تمنى ثم يعود الجميع لمنزله سعيدًا .

بعد لحظات دلف مسبب رعبها, بهدوء استعاد الطبيب ملامح العمل وتحدث بلهجة هادئة :

– أهلًا وسهلًا أتفضل، اسم حضرتك أيه؟

– اسمي كريم.

بابتسامة تعلم رسمها مع الوقت ونبرة هادئة يعلم تأثيرها في نقل أحساس الود قال:

– أهلًا يا “كريم” أنا طبعًا عايز اقعد معاك وندردش سوا، لكن احب اكون مركز اكتر واقدر اقعد معاك أطول وقت ممكن! ايه رائيك لو نتقابل يوم بدري؟

في الحاح أجابه:

– أنا مش هاخد منك وقت طويل  يادكتور، عشر دقايق بالكتير ونكمل في ميعاد تاني..أرجوك.

ومع الإصرار لم يكن أمامه سوى الاستجابة لرغبته ويسمعه لعدة دقائق وهو ينوي إيقافه عند نقطة حاسمة والاتفاق على ميعاد اخر للاستكمال منها..منى نفسه بأنها مجرد عشرة دقائق  أخيرة من العمل  ستمر سريعًا,  فاستعاد  ابتسامته الودود :

– أتفضل يا “كريم”، سامعك.

***

بعد مرور ساعتين  في غرفة الطبيب لم يكن هناك شيء غريبًا وظهر معظمها بشكله المعتاد,  ولنكن أكثر دقة لنقل أن فقط القليل من الأشياء غابت عن أماكنها الطبيعية وأخرى لم تعد موجودة بالأساس! هذا بالإضافة لكيان ملقى بجوار الباب!  ولو اقتربنا منه أكثر رأيناه وهو يحاول التحرك قبل أن تتضح ملامحه ونكتشف انه الطبيب ! اكتسبت مقدمة رأسه لون ازرق و كانت حركته مضطربة محاولًا استعادة توازنه  للنهوض من مكانه.

أطلق جملة عصبية في غضب وهو يخرج من غرفته ناظر للأوراق المبعثرة في كل مكان, ادراج مكتب الاستقبال المفتوحة على اخرها و المتشبثة بمكانها قبل السقوط أرضا وسطحه الخالي تمامًا ماعدا  فقط رأس.. رأس “سحر”  فاقدة الوعي !

نهاية الجزء الأول

اقرأ أيضاً

تجارب مع الموت

زر الذهاب إلى الأعلى