قصص الرعب

سرقات صديقة

الحلقة الثانية

سرقات صديقة

سحر…سحر

أخذ الطبيب يكررها بصوت يقطر إرهاقًا محاولًا إفاقتها، مقاومًا بقايا الصداع و الذي مازال يدق بداخل رأسه كالمطرقة..قبل أن يجذب كرسيًا ويريح جسده بمجرد أن استقبل علامات دخولها لمراحل استعادة الوعي.

حاول ذهنه استعادة أخر اللحظات قبل أن يُسلب منه  وعيه, كل ما استطاع تذكره هو قبضة قاسية ترتطم بوجهه..رائحة نفاذة تتسلل لانفه ثم وقت دارت فيه عقارب الساعة عدة دورات بدون أن يعلم أي شيء حدث أثناءها!

لماذا فعل هذا، هل بغرض السرقة! في استنكار أخذ يفكر..ما الذي يمكن سرقته من عيادته؟ فطبيعة تخصصه لا تجعل هناك أي احتياج لوجود أجهزة طبية أو معدات ثمينة يمكن بيعها..فقط مبلغ بسيط هو إيراد اليوم والكمبيوتر المحمول..

وهنا هب من مقعده واندفع متجها إلى غرفة الكشف ليبحث عنه لكنه لم يكن في مكانه! فقد جميع بيانات العملاء من معلومات شخصية وأسرار لا يعلمها حتى مقربوهم, وضع يديه على راسه  يفكر في رد فعلهم  لو علموا أن خباياهم و مكنوناتها أصبحت الآن مع شخص مجهول تنتظر أن يُخرق حجاب سترها.

– وهيعمل بيها أيه يعني! أكيد هيمسح كل اللي عليه ويبيعه!

عاد ليغرق في خواطره بصوت عال ليطمئن نفسه، لكن طريقته في قولها أقلقته أكثر, وهنا طرح على نفسه سؤال بدا منطقيًا.. لو انه مجرد لصًا عاديًا فلماذا اختار عيادته تحديدًا دونا عن العيادات الأخرى في نفس البناية! فوقتها كان سيحصل على غنيمة أكبر بكل تأكيد!

***

– أخيرًا اليوم عدى !

قالتها “سحر” متنهدة بارتياح وهي تغلق وراها باب بيتها، فبعد يومًا طويلًا من محاولات حصر لكل ما سُرق وعمل قائمة لما تم اكتشافه منها، عصر الذاكرة للإدلاء بأوصاف سارق العيادة  في محضر القسم, و تحمل كلمات التوبيخ من العملاء أثناء تأجيل جميع مواعيد باقي الشهر بسبب سفر الطبيب للراحة لمدة ثلاث أسابيع.

غبطت الطبيب لقدرته على السفر ونسيان تلك التجربة القاسية، وهنا انقبض قلبها وأخذت مشاهد متقطعة تمر بخيالها: صرير الباب -والذي لم يعد محببًا بعد الآن-..خروج السارق من غرفة الطبيب وهو يسألها عن أول ميعاد يمكن حجزه.. البحث في دفتر المواعيد ثم ارتطام شيء بمؤخرة رأسها ولا شيء بعده سوى الظلام.

ولكنها أخيرا في منزلها ومع كل أفراد عائلتها.. “كمال”  أخيها الصغير, و للدقة صغيرًا في عينيها  فقط، فهو قد أنهى تعليمه المتوسط وتنقل بعده بين الأعمال اليدوية والحرة من العمل في الورش, توصيل الطلبات وحاليًا  بائع متنقل لشركة  توزيع عطور على المقاهي.

تحاول دائمًا أن تشعره أنه رجلها الذي تعتمد عليه وتتخذه سند لها, ليسا مراعاة لشعوره فقط  ولكن لأنها أيضًا تريد الشعور بهذا؛  لقد اسُتنفذت من تحمل المسئولية, فمنذ وفاة أمهم بل وحتى من  فترة مرضها الطويلة حملت على عاتقها مسئولية كل شيء, ففكرة وجود سند لها كانت تخفف بعض ثقل إحساس المسئولية, حتى لو كانت أفعاله لا تدل على أنه قادرًا على  فعل ذلك في الوقت الحاضر.

-كمال، أنت هنا؟

قالتها لظل أخيها الواقف في الشرفة يدخن، فالتفت إليها مشيرًا بيده الفارغة ليعلمها أنه يتحدث في الهاتف, هامسا لها :

-أخبار خبطة دماغك أيه؟

-الحمد لله، احسن حبة، خلص يلا وتعالى نتعشى .

فأشار أن موافقا، راقبها حتى اختفت عن ناظريه قبل أن يعود إلى حديثه قائلًا  بلهجة مستنكرة :

-هو ده اللي وصيتك عليه! مش قولتلك متمدش ايدك عليها!

سكت برهة ليسمع محدثه، ثم هتف بحدة:

-خفت منها! طيب..حسابي معاك بعدين!

– لا متجيش المنطقة خالص ولا تهوب ناحية القهوة لحد ما قولك.

***

غرفة مظلمة تقريبًا إلا من إضاءة خافتة كانت تصدر من شاشة كومبيوتر انعكست على عيون فتاة جميلة تجلس أمامها محدقة بنافذة المحادثة, و التي يبدو أنها قد جذبت كامل تركيزها .

أخذت تكتب بضغطات عنيفة سريعة, ناطقة كلماتها بصوت مسموع!  وكأنها تصر على إبلاغ المتلقي رسالتها بكل الوسائل المتاحة وحتى التي لن تصله.

-هتقول انت مين وعاوز مني أيه ولا تقفل بكرامتك احسن!

برغم العدائية و رباطة الجأش الظاهرة في كلماتها إلا أنها كانت ترتجف..ترتجف من داخلها كطفل صغير, طفل لا يجد من ينجده أو يساعده في أزمته!

في الفترة الأخيرة كانت قد قررت حماية نفسها من مشاعر الخذلان والرفض من الأصدقاء, والذي قلما ما تجدهم عند الحاجة!  استعاضت عنهم بالطبيب النفسي الذي تجده وقت ما تريد، دائمًا تستطيع الذهاب والتحدث  معه عن أي شيء, و مناقشة أي أفكار حمقاء قد تخطر ببالها. لكنها اكتشفت مؤخرًا أنه حتى الطبيب قد لا يكن متاحًا أيضًا، بل ويستطيع الابتعاد لفترات طويلة ويتركها كما كانت دائمًا..وحيدة!

-يا “سلمى” متخافيش وصدقيني، أنا حابب بس أساعدك واكون جنبك.

ظهرت الرسالة فجأة معلنة عن نفسها بصوت التنبيه المزعج, أكملت تفكيرها محاولة تجاهل ما يرسله ذلك الشخص الذي يخاطبها من بروفايل وهمي بكل تأكيد! أو أنه لاعب الكرة العالمي الذي قرر أن يتدخل بنفسه لمساعدتها في مشاكلها..أثارت تلك الرسالة المشاعر المختلطة التي عكرت صفو حياتها المُختلق عندما اقتحم غريب الأطوار هذا حياتها منذ عدة أيام!

***

– ده نصيبك من البيعة والفلوس اللي لقيتها هناك.

قالها “النوبي” مادا يده ل”كمال” -بشكل حاول أن لا يكون ملفتًا- بظرف منتفخ، وهما جالسان على إحدى المناضد المتطرفة بقهوة شعبية مزدحمة.

فتح طرف الظرف وألقى نظرة سريعة على ما بداخله قبل أن يدفعه في جيب سترته قائلًا بلهجة متشككة:

-دول بس؟!

-ملقتش إلا كام ملطوش ميكملوش الفين جنيه وغلبت لحد ما بعت الكمبيوتر المهكع اللي لقيته هناك. انت خلتني أخاطر بروحي على حاجة متستهلش! لو كنت سمعت كلامي وسرقنا أي دكانة أو شقة مش كانت جبرت!

-متبقاش غشيم، دلوقتي كل حتة راشقين فيها كاميرات ومش هتلحق تروح بيتكم و هتلاقيهم جايبينك! لكن الدكتور ده أنا مطقس وعارف أن معندوش و سرسبت البت اختي وعرفت اخر ميعاد ومش هيكون موجود غيرهم امتى, أدينا عملنا مصلحة وربنا يعوضنا في الشغلانة الجاية.

***

لليوم الخامس على التوالي لم يغادر “خالد” المنزل، رافضًا جميع اغراءات أصدقائه، فمنذ أن قام بشراء ذلك الكمبيوتر المستعمل واكتشف عليه هذا البرنامج الغريب -الذي يبدو وكأنه برنامج ادارة ملفات عيادة طبية ما- وهو يشعر أنه قد وجد أخيرًا هدفًا لحياته.

تعجب في البداية لوجود به بيانات ذات خصوصية، ثم قال لنفسه بالتاكيد أنها غير حقيقية أو غير كاملة على افضل تقدير، أمضى يومه الأول في قراءة الصفحات المسجلة واحدة تلو الأخرى، حتى وصل لصفحة مريضة اسمها “سلمى”.

صفحتها كانت تحوي اسمها الثنائي والعمر ولا توجد بيانات شخصية اخرى إلا رقم هاتفها، أما الجزء الأخير فكانت كلمات افتتاحية لا تكون جمل مفيدة, وكأن وظيفتها هي مساعدة كاتبها على تذكر معلومات بعينها, فمثلا أول عدة أسطر كانت :

لا أصدقاء

خيانة عاطفية

إدمان الكحوليات

محاولات انتحار

شك في  ثنائي القطب

شعر بتعاطف اتجاهها وانتابه شعور غريب بالحماسة لمجرد تخيل أنه استطاع إنقاذها من كل هذا! لم يعلم بالتحديد لماذا كل هذا ولكن لعله يحاول أن يجرب إحساس أن يكون منقذا، أو أنه فقط يحاول أن يشعر بأن حياته لها هدف ما مثل أي إنسان ناجح؛ فقد فشل في أن يكون ذلك الشخص في عيون الأقوياء والأصحاء فربما يكون أسهل تحقيقه مع شخص يمر بتلك المشاكل..أو هكذا اعتقد!

جال بباله خاطر مجنون، لماذا لا يجرب أن يبحث برقم الهاتف في الفيسبوك و يرى ماذا سيحصل عليه من نتائج، لحظات ثقال مرت من بداية ضغطه على شعار متصفح الإنترنت وحتى اصطبغت نافذته بالأزرق المحبب والذي تم إحاطته بكلمات لم يرى أي منها، فقط حرك المؤشر بحركة مرتعشة  لمربع البحث وأخذ ينقل أجزاء الرقم بشكل يثير الشفقة من إعادة إدخال ومسح..حتى نجح أخيرًا ثم ضغط زر البحث.

ظهرت النتيجة الوحيدة، نفس الاسم الثنائي فشعر بضربات قلبه ترتفع كانها تريد أن تخرج لتتأكد مما رأته العين.

-أكيد هي، مش حيكون نفس الاسم والرقم صدفة!

قالها لنفسه وهو يتصفح صفحتها على الموقع، لم تكن هناك أي صورة شخصية..فقط صورة داكنة تمثل طائر ما, لم يعرف نوعه لكن الشيء الذي يعرفه أنه فعلا يغمرك بشعور من عدم الارتياح و لم يكن هناك سببا واضحًا لهذا, لكنك فقط تشعر به..هل  السبب طريقة وقوفه..عيناه أم شكل منقاره المدبب..أو أن سبب  كل هذا هو ما كان يفعله, كان الطائر واقفًا على أحد شواهد القبور والتي كانت متراصة بشكل مقبض! شاهد قبر فارغ  تحت سماء مظلمة..قمر لم يأت اليوم للعمل..المزيد من السحب البيضاء و التي ساهمت في إضافة بعض الكآبة على المشهد!

-أيه اللي هيحصل يعني!

قالها تشجيعًا لنفسه ثم هم أن يرسل لها طلب صداقة، لكنه تراجع في آخر لحظة لخاطر ما؛ لقد خشي أن يتسبب لنفسه في مشكلة ما لاحقا إذا تحدث لها من حسابه الشخصي, فقرر أن يقوم بإنشاء اخر وهمي احترازًا، شاعرًا بالراحة لأن قراره وافق شخصيته المترددة والخائفة طوال الوقت من أن تجابه بمشاعر الرفض من الآخرين.

في لحظات كان يفتتح حسابه الجديد، واضعًا صورة لاعب الكرة العالمي ليدلل على هوايته وأنه ليس شخصًا مملاً ليس لديه ما يفعله..ابتسم لنفسه لهذا الخاطر شاعرا كم هو ذكي!

في لحظات كانت رسالته تشغل مكانها في طابور صندوق مراسلاتها :

“هاي سلمى، ازيك؟ :)”

***

نهاية الجزء الثاني

اقرأ أيضاً

كابوس مميت

زر الذهاب إلى الأعلى