سينما

في عوالم وحيد حامد “موظفون ولكن..”

لأن حضور وحيد حامد كان قويًا بالأساس، فغيابه بالتأكيد أقوى، هو واحد من أسماء قليلة تعرف منذ اليوم الأول أن الموت حادثًا بسيطًا في تاريخها، سيذكر كما يذكر يوم عرض فيلم له، أو يوم تكريمه، أو يوم أجرى فيه حوارًا صحفيًا، لأن وحيد حامد لا تكفيه السنوات للتعبير عن مسيرته التي ستستمر لما هو أبعد من عمره..

في عوالم وحيد حامد ماذا بعد..؟

هذا رجل أحب أيامه، وجعلنا نحبها معه.. وقد أردت أن أوثق رحلتي مع سينما وحيد حامد وداخل عقله من خلال سلسلة مقالات تستمر على مدار هذا الشهر..

بخلاف معظم المؤلفين، لم تقتصر نظرة وحيد حامد للموظفين على كونهم أشخاص مملين، يقضي الواحد منهم معظم عمره على مكتب يفعل نفس الشيء، لا يقدم نفعًا حقيقيًا للمجتمع، ولا لنفسه، ولا لمن حوله.. شخصيات بلا مواقف حقيقية، وبلا أحداث استثنائية، يعيشون حياةً كاملةً ليقولوا جملة واحدة “فوت علينا بكرة”..

لعل هذا النموذج ظهر بقوة في فيلم “الإرهاب والكباب”، لكنه كان مصحوبًا بمبررٍ درامي قوي، وبدافع البطل في الثورة والغضب، فنشاهد أربعة نماذج من الموظفين الحكوميين الروتينيين؛ الأول يدعي التدين الظاهري، ويلجأ للصلاة هربًا من العمل، والثانية ربة منزل تأتي لأحل المهية ليس أكثر، ثروتها في هذا العالم هي معرفتها بأسعار الخضراوات، ومهارتها في تقوير الكوسة،.

والثالث رجل “فهلوي” مرتشي، أما الرابع فهو “أستاذ مدحت” الذي طاف بطل الفيلم أرجاء مجمع التحرير كاملةً بحثًا عنه، وهو نموذج الموظف الذي حصل الوظيفة لمجرد الشهادة، فهو لا يمتلك الطاقة للجلوس في المكتب، ولا الطموح للترقية، هو فقط يضمن مكانًا متاحًا، ويوفر لنفسه معاشًا وتأمينًا صحيًا.

أما عن الموظف الثاني الذي قدمه وحيد حامد، فهو “الشريف” صاحب المبدأ، والزاهد في الدفاع عنه، والذي برع فيه الفنان الراحل “أحمد راتب” في “طيور الظلام”، حيث أدى دور “محسن” الذي دفع بصديق عمره “فتحي نوفل” داخل مضمار السياسة دون قصدٍ منه،.

فقد استلهم نوفل من خطبته الحماسية، ومن “شعاراته” اليسارية، ما يخدم مرشح الحكومة للفوز في انتخابات البرلمان.. وقد حرص “محسن” فيما بعد على ألا يحصل على رد للجميل أو مقابل لمبادئه، حتى حين عرضت عليه وظيفة حكومية براتب ضخم تأكد من كونها وظيفة مشروعة قبل أن يقبلها كهدية.. وبرغم الفرصة إلا أنه لم ينسَ أن يبدي اعتراضه على طريقة “فتحي” في إتاحتها له.

تفرد وحيد حامد في عرض نموذج جديد على السينما المصرية، وهو الموظف المجتهد المخلص، هو ليس مجرد منافق يلعق حذاء مديره، ولكنه مخلص بحق.. يتجلى هذا النموذج بوضوح في فيلم “معالي الوزير” في نموذج “عطية عصفور”، الموظف الذي قد يفعل أي شيء لأجل الوزير،.

ينافقه قليلًا، يجلب له النساء، يبيت معه في السجن أحيانًا، وفي المسجد أحيانًا أخرى، يساعده في تصفية حساباته القديمة، يعطيه رأيًا صريحًا إن طلب.. قد يصل به الحال للذهاب لطبيب نفسي بدلًا منه، وإن خُيِّرَ في القتل عوضًا عن فضيحة الوزير لاختار القتل، وأظن هذا الإخلاص هو ما سهل على الوزير “رأفت رستم” قراره في الخلاص من عطية.. فبالتأكيد روحه الصاعدة إلى السماء لن تمانع هذه التضحية لأجل إرضاء “رأفت باشا”.

هذا النموذج ظهر مرة أخرى على استحياء أكبر في فيلم “سوق المتعة” الذي ظلمه التنفيذ – في رأيي- في شخصية “علاء الزيني”، الذي فرد مهام وظيفته بوضوح أمام بطل الفيلم “أبو المحاسن”، وأخبره أنه سيطيعه في كل ما يريد، فإن أراد الحريم أحضرهم له، وإن أراد الصلاة فرش سجادته وصلى معه.

الموظفون المذكورون أعلاه نماذج جيدة، يمكن أن تحبها أو تكرهها، لكن هناك نموذج الموظف الذي يمكن اعتباره “براند” لوحيد حامد، هو “الموظف الملول”، الموظف الذي ضجر ما يحدث حوله في الحياة، الموظف الذي لا يمتلك دوافع في هذه الحياة إلا الملل،.

لا يفعل الشيء إلا من منطلق “لماذا لا نفعله؟”.. لعل الإلهام لهذا النموذج من الموظفين رغبة دفينة في عقل وحيد حامد نفسه، فطبيعة عمله تجعله يسافر لأميال داخل رأسه، يخوض مغامرات كثيرة من مقعده.

نشاهد مغامرة الملل في شخصية “علي الزهار” في فيلم “اللعب مع الكبار”، والذي تدفعه وظيفته كموظف اتصالات في وردية ليلية للتجسس على مكالمات المواطنين، ومحاولة تغيير الواقع ومحاربة الفساد مستخدمًا صديقه “حسن بهلول”.

نشاهدها أيضًا في واحدة من أكثر كتابات وحيد حامد عذوبة، وهي “سفر الأحلام”، حيث نشهد رحلة الأستاذ أنيس الذي يُحال على المعاش ليكتشف وحدته، ويقرر تكوين مجتمع جديد خاص به، بشروطه واختياراته هو، ليصرف عنه الوحدة والملل، فيحول بيته لفندق بسيط بغرض الحصول على بعض الونس.

نشاهد هذا النموذج في شخصية “يوسف المنسي”.. عامل السكة الحديدية الذي يدفعه ملل الوظيفة للعب دور “البطل” الذي سينقذ الأميرة من الأشرار، ولو ليوم واحد في حياته، يعلم أنه لا يمتلك خيارًا بديلًا عن الملل، وهو ما يتضح في جملته الأشهر:
“زهقتي؟! حلو أوي ده، الواحد لما يزهق يقدر يمشي على طول، أنا برضه زي حضرتك كده، ساعات كتير أزهق، بس ما أقدرش أمشي، لو مشيت القطارات تخش في بعض، أنا لو زهقت أتسجن، عارفة، فيه ناس كتير تزهق بس ما بتقدرش تمشي، تموت وهي زهقانة، أنا واحد منهم.”

اقرأ أيضًا

عن فيلم حبيب مضاف بلا مضاف إليه

 

عبدالرحمن جاويش

كاتب وروائي شاب من مواليد محافظة الشرقية سنة 1995.. تخرج من كلية الهندسة (قسم الهندسة المدنية)..صدر له عدة رويات منها (النبض صفر،) كتب في بعض الجرائد والمواقع المحلية، وكتب أفكار العديد من الفيديوهات الساخرة على مواقع التواصل الاجتماعي.. كما دوَّن العديد من قصص الديستوبيا على صفحته الشخصية على موقع facebook وحازت على الكثير من الإشادات من القراء والكُتَّاب كذلك..
زر الذهاب إلى الأعلى