أيام حلوة وحكايات.. بليغ حمدي وصديقه الضابط الفرنسي
بليغ حمدي وصديقه الضابط الفرنسي.. في 12 سبتمبر 1993 رحل بليغ حمدي، أي أنه في سبتمبر الجاري يكون قد مر 30 عاما بالتمام والكمال على غياب هذا الموسيقار المصري العبقري، وهي مناسبة تستدعي سيرته وذكراه.
وكنت في أول مشواري مع الصحافة عندما وقعت في هوى بليغ، وقضيت أكثر من عشرين عاما في توثيق حياته ومشواره، وأصدرت عنه 3 كتب، لعل أشهرها “بليغ حمدي.. سلطان الألحان” الذي صدر عن دار “إنسان” (2021)، وهو كتاب يزيد عدد صفحاته على 450 صفحة، يتضمن كل تفاصيل حياته، ورغم كل ذلك لا تزال حياة بليغ حمدي صاحب الألحان الساكنة في الوجدان مليئة بالأسرار والحكايات الجديدة.
بليغ حمدي وصديقه الضابط الفرنسي
قبل أيام جاءني تليفون من باريس، على الطرف الآخر قال لي صديقي محسن خطاب وهو في غاية الآسى: تخيل أن الضابط “آلان” أصيب بتليف الكبد زي بليغ!
وحتى تفهم سبب دهشة محسن خطاب وسر حزنه لا بد أن أحكي لك الحكاية من البداية!
أولا: محسن خطاب هو أقرب أصدقاء بليغ خلال السنوات الخمس التي عاشها في باريس (1986 – 1990)، عندما اضطر لمغادرة مصر، بعدما وجد نفسه متهما في قضية انتحار السيدة المغربية، ومحكوما عليه بسنة سجن ، فسافر إلي باريس لحين إثبات براءته، وفي باريس كان محسن خطاب هو رفيقه الدائم بحكم أنه يعيش فيها ويمتلك مطعما بها.. وكان قد هاجر إلى فرنسا قبلها بسنوات واستقر بها وتزوج، وتربطه ببليغ وأسرته معرفة قديمة.
واستأجر محسن لبليغ شقة في باريس، وساعده في شراء بيانو يُلحن عليه ألحانه الجديدة، لكن صوت البيانو العالي- خاصة في ساعات الليل حيث يحلو لبليغ العمل- تسبب في ازعاج الجيران وأبلغوا الشرطة، وجاءه البوليس الفرنسي في منتصف الليل يحذره ويطلب منه التوقف عن العزف ليلا.
وكان الحل الذي اقترحه محسن أن ينقل البيانو إلى المطعم، ويخصص لبليغ أحد أركانه ليلحن كما يحلو له، لكن بليغ- الذي اندمج في التلحين بعد منتصف الليل ناسيا كل شيء حوله- فوجئ بضابط فرنسي يدخل المطعم غاضبا، ويصر على تحرير محضر ضده وضد صاحب المطعم الذي خالف اللوائح والقوانين، ولم يغلق أبوابه حتى هذه الساعة المتأخرة من الليل.
علاقة بليغ والضابط الفرنسي
كان “آلان” الضابط الكبير في مباحث العاصمة الفرنسية والمسئول عن دوريات الانضباط في الفترة المسائية معروفا بشدته وصرامته، لكنه فوجئ بالرجل الجالس على البيانو يواصل العزف ولا يهتم بوجوده، فتضاعف غضبه ونادى على مساعديه لتحرير محضر يثبت فيه هذه المخالفات، وفي اللحظة نفسها وقعت عينيه على صورة للرجل الغريب الجالس على البيانو، صورة له على أسطوانة موسيقية معلقة أعلى البيانو، أنه هو نفسه بملامحه المميزة وشعره المنكوش ونظراته الحالمة وبريق العبقرية فيها، فأدرك أنه أمام موسيقار كبير في لحظة إلهام وعليه أن يحترمها ويقدرها حتى لو خالفت اللوائح، فجلس في هدوء يستمع إلى العزف الجميل، وتلك الموسيقى التي تغسل الروح.
بدأت علاقة الضابط الفرنسي ببليغ إذن بخناقة، ولكنها سرعان ما تحولت إلى صداقة، وفي اليوم التالي جاء “آلان” إلى المطعم، ولكنه جاء هذه المرة كصديق ليسلم على هذا الموسيقار المصري الغريب ويستمع إلى مزيكته المدهشة.
وتكررت الزيارات وتعمقت الصداقة، وعاش “آلان” ميلاد “بودعك”، تلك الأغنية الحزينة الكلمات التي كتبها بليغ من وحي سنوات الغربة في باريس، ومنحها هذا اللحن الغارق في الشجن، الغريب أن “آلان” حفظ الأغنية رغم أنه لا يعرف أي كلمة باللغة العربية، وكان يدندنها مع بليغ إعجابا بلحنها المميز والحزين.
وتهلل “آلان” فرحا عندما أهداه بليغ نسخة من الأغنية بصوته على شريط كاسيت، تقديرا لصديقه الفرنسي وإعجابه باللحن الذي لم يكن وقتها قد خرج للنور.
حدث مرة أن انتهى بليغ من سهرته بالمطعم في ساعة متأخرة من الليل، ووقف أمام المطعم طويلا ولكنه لم يعثر على سيارة تاكسي توصله إلى شقته، إذ كانت الأمطار في تلك الليلة غزيرة والشوارع غارقة والطقس في أشد حالاته سوءا، ولم ينقذه في تلك الليلة العاصفة سوى صديقه الضابط الفرنسي، الذي قام بتوصيل بليغ إلى بيته في سيارة البوليس!
بليغ واللغة الفرنسية
تفصيلة غريبة كانت تشغلني في علاقة بليغ و”آلان”، وهي: كيف كانا يتفاهمان ويتكلمان، وظني أن بليغ لا يفهم الفرنسية ولا يتكلمها، وقدم لي محسن خطاب الإجابة: الأستاذ بليغ كان يعرف الفرنسية، أو على الأقل الحد الأدني الذي يتيح له التفاهم بها، واكتسبها بحكم المعايشة والإقامة بباريس، وقبلها من خلال سنوات زواجه الطويلة بالفنانة وردة، وكانت الفرنسية هي لغة وردة الأساسية، بحكم أنها ولدت وعاشت سنوات طفولتها وصباها بباريس، وتتكلمها كأهلها، بل كانت في سنواتها الأولى بالقاهرة تكتب كلمات الأغاني العربية بطريقة الفرانكو آراب، أي بحروف فرنسية حتى تستطيع نطقها، ومن وردة اكتسب بليغ كثيرا من الكلمات الفرنسية.
وبسبب صداقته ببليغ أصبح مطعم محسن خطاب هو المكان المفضل الذي يعزم فيه “آلان” أسرته، خاصة زوجته ووالدته، ويستغل كل فرصة ليجلس مع بليغ ويستمع إلى موسيقاه.
وخلال شهور مرض بليغ والتي قضاها في مستشفى “جوستاف روسيه” على أطراف باريس، وهو أشهر المستشفيات المتخصصة في علاج سرطان الكبد وتليفه، كان “آلان” يمر على محسن بشكل منتظم ليطمئن على صحة بليغ وتطورات مراحل علاجه، ومر ذات يوم فأخبره العمال بالمطعم أن محسن سافر إلى القاهرة مرافقا لجثمان بليغ الذي توفي قبل أيام، وحزن عليه “آلان” كثيرا، ولما عاد محسن إلى باريس بعد أيام العزاء ذهب إليه “آلان” ليعزيه وهو يغالب دموعه.
وظل “آلان” وفيا لذكرى صديقه الموسيقار المصري، ويمر على محسن في مطمعه ليتذكران معا صديقهما العبقري الراحل.
وفي زيارته الأخيرة لباريس ذهب محسن ليطمئن على “آلان” الذي خرج على المعاش منذ سنوات طويلة، فوجده شديد الهزال، وغارت ملامحه الوسيمة، وانطفأ ذلك البريق المميز في عينيه، وبهدوء شديد أخبره “آلان” أنه أصيب بسرطان الكبد، نفس المرض الذي أصاب صديقه بليغ حمدي.. وجاءني صوت محسن منفعلا من الدهشة والحزن: تخيل إن “آلان” عنده تليفا في الكبد.. سبحان الله.. نفس المرض ونفس الأعراض اللي كانت عند بليغ بالضبط!
صداقة غريبة
سألت محسن بفضول: هو لسه فاكر بليغ؟.. أجاب بعفوية: طبعا.. وهو بليغ برضه يتنسي!
وجلست أتأمل في تلك الصداقة الغريبة بين ملحن مصري وضابط شرطة فرنسي، وخرجت بمعنيين كبيرين:
الأول: أن الموسيقى لغة عالمية، عابرة للحدود واللغات والجنسيات، لا تحتاج إلى مترجم ولا ترجمة.
الثاني: أن الإنسانية هي الأصل، لا يهم فيها الاسم ولا اللون ولا العنوان.. المهم هو الإنسان.. حتى لو كان أحدهما مصريا اسمه بليغ والآخر فرنسيا واسمه “آلان”.
بقلم/ أيمن الحكيم