هل الفلسفة مُهمة للعلم؟
(1)
لو أن هناك ثلاثة أصدقاء فوق سطح عال ينظرون إلى الطبيعة
الأول: يراها آية في الجمال
والثاني: يراها من منظور أنها تعبير عن الحضارة الإنسانية في ارتباط الإنسان بالواقع، حيث تم تحويل الجميل إلى توافق مع الإنسان.
والثالث: يراها مكونة من حيوان ونبات وجماد ومياه وبشر، وجميعها مكونات من ذرات وجزئيات… الخ
الأول نظرة جمالية فنية – والثاني نظرة فلسفية – والثالث نظرة علمية.
نحن إذا أمام مثلث (الفنان – الفيلسوف – العالم)
من هنا يمكن دراسة هذا المشهد وفق مستويين:
الأول.. الرأسي: ندرس علاقة الفنان بالطبيعة، والفيلسوف بالواقع، والعالم بعناصر الوجود
والثاني.. الأفقي: علاقة الفن بالفلسفة، وعلاقة الفن بالعلم، وعلاقة الفلسفة بالعلم
الآن نناقش إحدى هذه العلاقات الأفقية، علاقة الفلسفة بالعلم أو العلم بالفلسفة.
(2)
قيل في الأثر التاريخي أن الفلسفة أم العلوم؟ فماذا نعني بهذا الكلام؟
أنها قادرة على التعامل مع العلم ورصد التحولات التي جرت فيه، وتأثيرها على الحياة والمجتمعات والإنسان، ولكي تقوم بتلك المهة فلا بد وأن تكون مهمتها ذات طابع تاريخي، كيف؟؟
في البداية.. سننطلق من الحضارات القديمة، ونختار الحضارة المصرية القديمة، كمثال للحضارات القديمة.
الفلسفة والعلم والحضارة
منذ اللحظة الأولي لتاريخ البشرية حاول الإنسان فهم الطبيعة المحيطة به… طرح سؤالين.. الأول فلسفي: لماذا أنا هنا؟ والثاني علمي: ما هي الأشياء المحيطة، ما هذه الطبيعة المتوحشة الغامضة…؟ ومنذ طرح السؤالين أبحر العلم في فك رموز الطبيعة، وأبحرت الفلسفة في فهم الواقع من خلال تأمله.
فلا أحد ينكر دور العلم في تشييد الحضارة المصرية القديمة وفي بناء الأهرامات، والتحنيط، والري.
في البداية، في العصر اليوناني كانت الفلسفة متداخلة مع العلم، حيث يصعب الفصل بينهما، فغالبا كان الفيلسوف عالما، والعالم فيلسوفا، ذلك أن مهمته كانت البحث في الوجود، والوجود يحتاج معلومات لكي يتم الكشف عنه، ولذلك فالفلسفة كانت تحاول تحقيق وجودها من خلال المقولة العلمية.
مثال على ذلك فيثاغورث.. كان فيلسوفا، وعالما رياضيا، وصاحب مدرسة قامت بدور كبير في النهضة العلمية الإغريقية والأوروبية بشكل عام.
المثال الثاني.. نجده عند أفلاطون الذي طالب الفيلسوف بأن يدرس الرياضيات إلى جانب الفلسفة، وكتب على باب أكاديميته (لا يدخل علينا إلا من كان رياضيا)
المثال الثالث، هو أرسطو الذي كانت مؤلفاته تتضمن معظم علوم عصره..
فالعلم والفلسفة كانا مقترنين ببعضهما البعض منذ البداية.
….
في العصر الوسيط.. سنجد أن العلم اقترن بالفلسفة في الغرب بدرجة أقل نسبيا من الشرق والعالم العربي.. فنجد مثلا:
الكندي، الفيلسوف كان على علم بالرياضيات والطبيعة، حاول البرهنة على وجود الله بطريقة رياضية…. واستخدم بعض التجارب الكيماوية.
الفارابي: اهتم بالهندسة والميكانيكا والموسيقى.. والطب بشكل أساسي، ودون ذلك في كتابه “القانون” الذي ظل يُدرس في أوروبا حتى القرن الـ16.
وكذلك الرازي الطبيب في كتابه “الحاوي“.
ابن الهيثم: له إسهامات كبرى في المناظير…
أحدث العلماء والفلاسفة العرب دورا مهما في الحضارة الإنسانية.. في اتصال الفلسفة بالعلوم.. فكانت رؤاهم الفلسفية منطلقا لاهتماماتهم العلمية.
مع مطلع العصر الحديث.. بدأ الانفصال بين الفلسفة والعلم..
بدأت فعليا مع أوجست كونت رائد الاتجاه الوضعي (الأسطورية/ الخرافية – الدينية – العلمية).. ومن فرنسيس بيكون رائد الاتجاه التجريبي..
كان طبيعيا أن يبدأ الانفصال الفلكي على يد كوبونيقوس وكبلر.. حينما أشارا إلى أن الشمس هي مركز الكون لا الأرض.
ثم الفيزياء.. لماذا لأنها تعني بدراسة الطبيعة وقوانين الحركة.. وكان ذلك الاستقلال في القرن السابع عشر على يد جاليليو ونيوتن وديكارت.. الذين قالوا بأن دراسة الكون ممكنة بدون وضع افتراضات متيافيزيقية أو غيبية تقول بها التصورات الدينية أو غيرها.
ثم انفصلت الكيمياء.. على يد لافوازيه..
والتاريخ الطبيعي على يد كلود برنار…
في العلوم الإنسانية.. استقل علم الاجتماع عن الفلسفة عن طريق أوجست كونت
علم النفس عن طريق فرويد وأدلر وبتأثير من نيتشه
(3)
أهمية الفلسفة للعلم
السؤال الآن.. هل هذا الاستقلال يعني أن الفلسفة صارت غريبة عن تلك العلوم؟ بالطبع لا.. لماذا؟
لأن كل هذه العلوم تستند علي أسس فلسفية.. بمعنى أنها نتاج للسؤال الفلسفي… لماذا تسقط الأجسام إلى أسفل.. لماذا يتعاقب الليل والنهار.. لماذا تتغير طبيعة الأشياء كيمائيا.. لماذا تثور المجتمعات ولماذا يحدث التوافق الإنساني والاجتماعي؟؟ لماذا يسلك هذا الشخص ذلك السلوك دون غيره؟؟؟
وهكذا.. يظل السؤال الفلسفي هو جوهر العلوم. لذلك إضافة إلى قدرتها على طرح السؤال مهمة أخرى، وهي الاهتمام بمناج العلوم الميثودولوجيا.
ليس هذا فقط.. فقد استفادت العلوم من الفلسفة في الكثير منها
- بل فإن الفلسفة تكون حاضرة أيضا كسقف جامع يربط كل هذه العلوم بعضها ببعض..
- أخذت بعض المصطلحات من الفلسفة مثل الدقة واليقين والتفسير والتنبؤ والتجريد.. الخ
- استلهمت بعض الأفكار من الفلسفة مثل التصور الذري عند المدرسة الذرية، وقال بها علماء الكيمياء، وفكرة القصور الذاتي من أرسطو الذي قال بالمحرك الذي لا يتحرك
شهد القرن التاسع عشر نزاعا بين العمل والفلسفة. فظهرت أفكار تقول بأننا في عصر العلم لا الفلسفة.. ولكن هذه النزعة لم تستمر طويلا، إذ سرعان ما عادت اللحمة من جديد في القرن العشرين، من خلال فلسفة العلم والوضعية المنطقية، التي قالت بأن دور الفلسفة هو فقط الاهتمام بمنجزات العلم..
من هؤلاء الذين قالوا بربط العلم بالفلسفة..
باشلارك ضرورة ربط العلم بالفلسفة.. لأن انفصال الفيلسوف عن التجار بالعلمية لعصره.. حتى يتمكن
برجسون يرى أن العلم لا يستطيع أن يواصل مسيرته من النسبي إلى المطلق دون الاستعانة بالفكر الفلسفي.
……
( 4)
ملاحظة عامة عن مسيرة الفلسفة
في العصر اليوناني اهتمت الفلسفة بالوجود- في الوسيط اهتمت بالألوهية- في العصر الحديث اهتمت بالإنسان في علاقاته المتنوعة الطبيعة والدين والدولة.. الخ، في الفترة المعاصرة اهتمت بالعلم والمنهج، ثم أخيرا بالمفاهيم.
…………
ظلت الفلسفة والعلم ملتصقتان حتى القرن السابع عشر..
الفلسفة تنظر في الأبديات والمطلقات والكليات.. والعلم في الحسي والجزئي والنسبي..
والإنسان يحتاج إليهما معا في تبرير وفهم وجوده.. السؤال الكلي والسؤال الجزئي…
الفلسفة تتعامل مع المجرد.. والعلم مع المتعين الحاضر.. حتى لو لم تدركه العين المجردة.
الفلسفة تطرح الأسئلة أكثر من الأجوبة.. والعلم منشغل بالأجوبة أكثر من الأسئلة.
حينما سئل الفيلسوف والمنطقي الفرنسي (ت1918) لاشولييه ما الفلسفة قال الفلسفة هي لا أعرف… إنها السؤال الواضح والإجابة الغامضة..
العلم: هو نوع محدد من المعرفة، أو نشاط منظم يسعى لفك رموز الكون بما فيه الإنسان.. ويسعى لكي يحقق تلك المعرفة أن يتسلح بالدقة والواقعية، ويستخدم وسائل كثيرة منها القياس والكمية أو التكميم والتحقق أي القابلية للاختبار الإيجابي.
العلم يهدف إلى بلوغ النتائج دائما.. أو تحقيق غايات دائما.. ولكي يتم ذلك يستخدم مناهج تمنع الوقوع في الخطأ قدر الإمكان.. وتمنع عدم الدور.
الفلسفة: تعني حب الحكمة.. ولكن ما معنى هذه العبارة؟؟ معناها هي مواصلة السير نحو الأفضل دائما للإنسان، ولذلك ومن تلك المهمة فإن وجودها مقترن بوجود الإنسان.
والفلسفة لها معنيان:
المعنى العام: آلية التأمل والتفكر في كل شيء حولنا.. وتلك مهمة يقوم بها كل البشر.. بدرجات متفاوتة وحتى دون أن يدركوا..
المعنى الخاص: وهي التخصصية أو الأكاديمية.. حيث يقوم بها بعض البشر المحترفين، وفقا لشروط عملية محددة، ويستخدمون مناهج واضحة ومتطورة دائما..( الاستقراء – الاستنباط والقياس – الفرضي الاستنباطي.. الخ)
الاختلاف بينهما
- الفلسفة تبحث عن الكلي والعلم عن الجزئي
- المنهج مختلف بعض الشيء.. الفلسفة استنتاج واستنباط وتحليل وتركيب.. العلم كذلك ولكنه يضيف الفرض والتنبؤ والتجربة والبرهان
- نتائج الفلسفة غالبا تكون وجهات نظر الفيلسوف ومن يتبعه.. نتائج العلم غالبا ما تكون ملزمة نظرا لواقعيتها ودقتها وإقرارها بما سبق من علوم
- لا يقر الفيلسوف بمن سبقه.. ليس بالضرورة.. في العلم هناك ضرورة بنائية على ما سبق إلا في حالة الثورات العلمية الكبرى، مثل التحول من النموذج النيتوتي إلى الاينشتيني..
الاتفاق بينهما:
أنهما يُكملان بعضهما البعض.. فالسؤال الفلسفي قد يجد إجابته في العلم.. والنتائج العلمية من علوم متفرقة قد يأتي الفيلسوف ليجمعها كلها في تصور فلسفي موحد.